الآيات 61 - 64
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَـهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَـقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَـهُ مَتَـعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ مِنَ الْـمُحْضَرِينَ(61) وَيَومَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقوْلُ رَبَّنَا هَــؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـهُمْ كَمَا غَوَيْنا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)﴾
التّفسير
أنّهم عبدَة الهوى:
كان الحديث في الآيات المتقدمة عن الذين فضّلوا الكفر على الإيمان بسبب منافعهم الشخصيّة - ورجّحوا الشرك على التوحيد، وفي الآيات التي بين أيدينا يبيّن القرآن حال هذه الجماعة يوم القيامة قبال المؤمنين الصادقين.
ففي بداية هذه الآيات يلقي القرآن سؤالا يقارن فيه بين المؤمنين والكافرين، ويثير الوجدان ويجعله حكماً فيقول: (أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثمّ هو يوم القيامة من المحضرين).
ولا شك أن وجدان يقظ يرجّح وعود الله و مواهبه العظيمة الخالدة، على نعم الدنيا التي لا تطول إلاّ أيّاماً و تتبعها آلام وشقاء خالد؟!
جملة (فهو لاقيه) تأكيد على أن وعد الله لا يتخلف أبداً ولابدّ أن يكون كذلك، لأنّ تخلّف الوعد إمّا ناشىء عن الجهل أو العجز، وكلاهما مستحيل على ذات الله المقدسة.
وجملة (هو يوم القيامة من المحضرين) إشارة إلى الإحضار في محضر الله يوم القيامة للحساب، وفسرها البعض بالإحضار في نار جهنّم، ولكن التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو، وعلى كل حال فإنّ هذا التعبير يدل بصورة واضحة على أنّ المجرمين يساقون مكرهين، وعلى غير رغبة منهم إلى تلك العرصات المخوفة، وينبغي أن يكون الأمر كذلك... لأنّ وحشة الحساب والقضاء يوم القيامة ومشاهدها تغمر وجودهم هناك!.
والتعبير بـ(الحياة الدنيا) التي تكررت في سور مختلفة من القرآن الكريم، إشارة إلى حقارة هذه الحياة بالنسبة للحياة الأُخرى والخلود فيها وعدم الزوال والإضمحلال، لأنّ كلمة "دنيا" في الأصل مأخوذة من "دنو" على زنة "غلو" ومعناها القرب في المكان أو الزمان أو المنزلة والمقام، ثمّ توسّع هذا المفهوم ليطلق بلفظ "دنيا أو أدنى" على الموجودات الصغيرة التي تحت اليد في مقابل الموجودات الكبيرة، وقد يطلق هذا اللفظ على الموضوعات التي لا قيمة لها في مقابل الأشياء ذات القيمة العالية، وربّما استعمل في القرب في مقابل البعد.
وحيث أن هذه "الحياة" في مقابل العالم الآخر صغيرة ولا قيمة لها وقريبة أيضاً، فإنّ تسميتها بالحياة الدنيا تسمية مناسبة جدّاً.
بعد هذا، يأتي الكلام عن عرصات يوم القيامة ومشاهدها ليجسّده أمام الكفار، مشاهد يقشعر منها البدن حين يتصورها الإنسان، فيقول القرآن: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون).
وبديهي أنّ هذا السؤال سؤال توبيخ وإهانة، لأنّ يوم القيامة يوم كشف الحجُب والأستار، فلا مفهوم للشرك، ولا المشركون في ذلك اليوم باقون على عقيدتهم و"شركهم".
فهذا السؤال في الحقيقة فيه نوع من الإهانة والتوبيخ والعقوبة!
ولكنّهم بدلا من أن يجيبوا بأنفسهم، فإنّ معبوديهم هم الذين يردّون الجواب، ويتبرؤون منهم، ويتنفرون من عبادة المشركين إيّاهم.
ونعرف أن معبودات المشركين وآلهتهم على ثلاثة أنواع: فإمّا أَن يكونوا أصناماً "وأحجاراً وخُشُباً" أو من المقدسين كالملائكة والمسيح، وإمّا أن يكونوا من الشياطين والجنّ.
فالذين يردّون على السؤال ويجيبون هم النوع الثالث، كما حكى عنهم القرآن (قال الذين حقّ عليهم القول ربّنا هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون).
فعلى هذا تكون الآية السابقة شبيهة بالآية (28) من سورة يونس إذ تقول: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون).
فعلى هذا يرد المعبودون الغواة على عبدتهم ويتبرؤون منهم، كما يبرأ فرعون ونمرود و الشياطين والجن من عبدتهم وقومهم ويتنفرون منهم، ويدافعون عن أنفسهم، حتى أنّهم ينسبون الضلالة لمن تبعهم ويقولون: إنّهم تبعونا طوعاً... الخ.
ولكن - من البديهي - ليس لهذا النفي أثر، ولا تنفع البراءة منهم، فالعابدوالمعبود معاً شريكان "في النّار"(1).
الطريف الذي يستلفت النظر، هو أنّ كل واحد من المنحرفين يتبرأ في ذلك اليوم من الآخر وكلٌ يسعى لأن يلقي تبعة ذنبه على صاحبه.
وهذا يشبه تماماً ما قد نراه في هذه "الدنيا" من اجتماع رهط على أمر ما حتى إذا وقعوا في مخالفة القانون، وأُلقي القبض عليهم، وأحضروا إلى المحكمة، يتبرأ كلّ واحد من الآخر ويلقي بعضهم الجريمة على صاحبه، فهكذا هي عاقبة المنحرفين والضالين في الدنيا والآخرة!
كما نجد مثل هذا في الآية (22) من سورة إبراهيم (وقال الشيطان لما قُضي الأمر أنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم).
ونقرأ في الآية (30) من سورة الصافات في شأن المشركين الذين يتحاجون في يوم القيامة مع أتباعهم فيقولون: (وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين).
وعلى كل حال، فتعقيباً على السؤال عن آلهتهم.
وعجز المشركين عن الجواب.
يطلب أن يدعوهم لنصرتهم (وقيل ادعوا شركاءكم)(2).
وحيث يعلم المشركون أن دعاءهم غير نافع، وأن المعبودين "الشركاء" لايمكن أن يفعلوا شيئاً من شدّة الهلع والوحشة، أو استجابة لأمر الله الذي يريد أَن يفضح المشركين والشركاء أمام أعين الخلق، يتوجهون إلى الشركاء ويدعونهم كما يقول القرآن الكريم: (فدعوهم).
ومن الواضح أنّه لا أثر لهذا النداء والطلب، ولا يقال لهم "لبيك".. (فلم يستجيبوا لهم).
فحينئذ لا ينفعهم شيء (ورأوا العذاب).
ويتمنون (لو أنّهم كانوا يهتدون!).(3)
1- هناك بحث مفصل أوردناه لدى تفسير الآية 36 من سورة الأنعام.
2- في أن الآية هل تشمل المستقلات العقلية أم لا، بحثنا في ذلك بحثاً مناسباً في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.
3- التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 6.