الآيات 47 - 50

﴿وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتُكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (47)فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بَمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَـهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَـفِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَـب مِّنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إَنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ(49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ الله إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(50)﴾

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق:

حيث أن الآيات - آنفة الذكر - كانت تتحدث عن إرسال النّبي(ص) لينذر قومه، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي فيقومه فيقول: إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا ا ذا أردنا انزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا: لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا احكامك لنؤمن به (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)(1).

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق، وهو أن طريق الحقّ واضحٌ وبيّن... وكل "عقل" حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام.. وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام - كالمظالم وما شاكلها - هي من مستقلات حكم العقل، وحتى مع عدم إرسال الرسل، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأُمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة، إتماماً للحجّة ونفياً للعذر، لئلا يقول أحد: إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها، ونقرأ في سورة النساءالآية (65) أيضاً (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً).

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم - بعد إرسال الرسل - لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الإنحراف، فتقول الآية: (فلما جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى).

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء "كيد موسى"؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولِمَ لِمَ... الخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج، ويقول: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا) أي موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق (وقالوا إنا بكلّ كافرون).

والتعبير بـ "سحران" بدلا عن "ساحران" هو لشدة التأكيد، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول: هو العدل بعينه، أو بعينه، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال - أيضاً - وهو: إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسى(ع) وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل: ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة، فهذه الأُمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح.. وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمراً جديداً.. فجميعهم من نسيج واحد، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماماً، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفاً، إلاّ أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيراً آخر وقالوا: إنّ المقصود بقوله تعالى: (سحران تظاهرا) هو "النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّد(ص)" لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون: إن كليهما ساحران... وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم، وسألوهم عن نبي الإسلام "محمّد"(ص) أهو نبيّ حقّاً؟! فأجابوا: إنّهم وجدوا مكتوباً عندهم في التوراة "بأوصافه"!.

فرجعالمبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود، فقالوا: (سحران تظاهرا وإنّا بكل كافرون).

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيداً جدّاً:

الأولى: أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحراً.

الثّانية: كيف يمكن لأحد أنْ يدعي أن موسى ومحمّداً(ص) ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِمَ لَم يأت النّبي(ص) بمعاجز كمعاجز موسى، ومن جهة أُخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في "التوراة" من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة... لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداً(ص) ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!! (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين).

وبتعبير آخر: إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافياً في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونو طلاّب حق، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنّما يتبعون أهواءهم) لأنّ أي إنسان إذا لم يتّبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح، لكن أُولئك لم يكونوا على صراط مستقيم، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

ولكن من أضيعُ منهم (ومن أضلُّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين).

ولو كانوا طلاّب حقّ وقد أضلوا سبيلهم، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد... فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال:

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقاً به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها.. لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم، شرط لدرك الحقائق.. التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي، مراً كان أم عذباً، موافقاً لرغبات النفس أم مخالفاً، منسجماً مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم... لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (43) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدةٌ تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامهوقائده الإلهي واتبع هواه(2).

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقر(ع) والإمام الصادق(ع) وبعض الائمّة الطاهرين(ع).. هي من قبيل المصداق البارز.. وبتعبير آخر: إنّ الإنسان محتاج لهداية اللّه... هذه الهداية تارةً تنعكس في كتاب اللّه، واُخرى في وجود النّبي وسنته، وأُخرى في وأوصيائه المعصومين، وأُخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإهية غير متبع لهواه، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.


1- كان بين ظهور موسى(عليه السلام) وظهور النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله) حدود ألفي عام.

2- قال بعض المفسّرين: يحتمل أن يكون المراد من "نادينا" هنا هو النداء الثّاني عندما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور، فجاءه النداء من الله، ولكن هذا الإحتمال بعيد جداً; لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضراً هناك ولم يكن من الشاهدين، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور "فلاحظوا بدقة".