الآيات 38 - 42

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـأَيـُّهَا الْمَلاَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إَلَـه غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَـهَـمَـنُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إلى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّى لاََظـُنُّهُ مِنَ الْكَـذِبِينَ(38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَيُرْجَعُونَ (39)فَأَخَذْنَـهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْظَّـلِمِينَ(40) وَجَعَلْنَـهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ لاَ يُنْصَرُونَ(41) وَأَتْبَعْنَـهُمْ فِى هَـذهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ هُمْ مِّنْ الْمَقْبُوحِينَ(42) ﴾

التفسير

كيف كان عاقبة الظالمين؟

نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ المليء بالأحداث والعبر.

هذا المقطع يعالج مسألة صنع فرعون البرج - أو بنائه الصرح المعروف - للبرهنة على وهمية دعوة موسى(ع).

ونعرف أن من سنن الساسة القدماء في أعمالهم أنّه كلما وقعت حادثة مهمّةعلى خلاف رغباتهم وميولهم (ومن أجل التمويه وايهام الناس) يبادرون إلى خلق جوّ جديد ليلفتوا أنظار الناس إليه، وليصرفوهم عن تلك الحادثة المطلوبة.

ويبدو أنّ بناء "الصرح العظيم" حدث بعد ما جرى لموسى من مواجهته السحرة ماجرى.. لأنّه يستفاد من سورة "المؤمن" أن هذا العمل "بناء البرج" تمّ حين كان الفراعنة يخططون لقتل موسى(ع)، وكان مؤمن آل فرعون يدافع عنه.. ونعرف أنّه قبل أن يواجه موسى(ع) السحرة لم يكن مثل هذا العمل ولا مثل هذا الحديث، وحيث أن القرآن ا لكريم تحدّث عن مواجهة موسى(ع) للسحرة في سورة "طه، والأعراف، ويونس، والشعراء" فإنّه لم يتطرق إليها هنا.

وإنّما تحدث هنا وفي سورة المؤمن عن بناء البرج.

وعلى كل حال فقد شاع خبر انتصار موسى(ع) على السحرة في مصر، وإيمان السحرة بموسى زاد في الأمر أهمية، كما أن موقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جديّ شديد.

واحتمال تيقظ الجماهير التي في أسر الذل كان كبيراً جدّاً.. فيجب صرف أفكار الناس بأية قيمة كانت، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية مقرونة ببذل من الجهاز الحكومي، لإغفال الناس وتحميقهم!

وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس فرعون للتشاور في معالجة الموقف، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع: (وقال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري).

فأنا إلهكم في الأرض.. أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده، ولكنني سأتحقق في الأمر ولا أترك الإحتياط، فالتفت إلى وزيره هامان وقال: (فأوقد لي يا هامان على الطين) ثمّ أصدر الاوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّاً لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى.

(فاجعل لي صرحاً لعلي اطلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه من الكاذبين).

لم لَمْ يذكر فرعون اسم الآجر، واكتفى بالقول: (فأوقد لي يا هامان على الطين)؟ قال بعضهم: هذا دليل على أن الآجر لم يكن متداولا حتى ذلك الحين، وإنّما ابتكره الفراعنة من بعد.. في حين أن بعضهم يرى أن هذا التعبير أو هذا البيان فيه نوع من التكبر وموافق لسنّة الجبابرة.

وقال بعضهم: إنّ كلمة "آجر" ليست فصيحة، لذلك لم يستعملها القرآن، وإنّما استعمل هذا التعبير المتقدم على لسان فرعون!.

هنا ناقش جماعة من المفسّرين كالفخر الرازي والآلوسي مسألة "الصرح"، وهل بنى فرعون "الصرح" حقّاً أم لا؟!

ويبدو أن الذي شغل فكر المفسّرين هو أن هذا العمل لم يكن متزّناً بأيّ وجه وأي حساب.

ترى.. ألم يكن الناس قد صعدوا الجبال من قبل فرأوا منظر السماء كما هو على الأرض؟.

وهل البرج الذي يبنيه البشر أكثر ارتفاعاً من الجبل؟.

وأي أحمق يصدق أنّه يمكن الوصول إلى السماء بواسطة مثل هذا البرج؟!

ولكن أُولئك الذين يفكرون مثل هذا التفكير غفلوا عن هذه المسألة، وهي أن مصر لم تكن أرضاً جبلية، وبعد هذا كلّه نسوا أنّ الطبقة العامّة لأهل مصر بسطاء ويخدعون بشتى الوسائل.

حتى في عصرنا الذي يسمى عصر العلم وعصر النور، نجد مسائل تشبه ما وقع في العصور الماضية ينخدع بها الناس.

وعلى كل حال، فطبقاً لما ورد في بعض التواريخ، فإنّ هامان أمر بأرض واسعة ليبنى عليها الصرح أو البرج، وهيّأ خمسين ألف رجل من العمال والمهندسين لهذا العمل المضني، وآلاف العمال لتهيئة الوسائل اللازمة لهذا البناء، وفتح أبواب الخزائن وصرف أموالا طائلة في هذا السبيل، واشغل عمالا كثيرينفي هذا البناء.. حتى أنّه ما من مكان إلاّ وتسمع فيه أصوات هذا البناء أو أصداؤه!.

وكلما اعتلى البناء أكثر فأكثر كان الناس يأتون للتفرج، وما عسى أن يفعل فرعون بهذا البناء وهذا البرج.

صعد البناء إلى مرحلة بحيث أصبح مشرفاً على جميع الأطراف.

وكتب بعضهم: إنّ المعمارين بنوا هذا البرج بناءً بحيث جعلوا حوله سلالم حلزونية يمكن لراكب الفرس أن يرتقي إلى أعلى البرج.

ولمّا بلغ البناء تمامه ولم يستطع البناؤون أن يعلوه أكثر من ذلك.. جاء فرعون بنفسه يوماً وصعده بتشريفات خاصة.. فنظر إلى السماء فوجدها صافية كما كان ينظرها من الأرض لم تتغير ولم يطرأ عليها جديد.

المعروف أنّه رمى سهماً إلى السماء، فرجع السهم مخضباً بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل.. فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس: اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى(1).

ومن المسلم به أن جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعاً أعمى وأصم، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق!.

ونقلوا هذا الخبر أيضاً، وهو أنّ البناء لم يدم طويلا "وطبعاً لا يدوم" أجل لقد تهدم البناء وقتل جماعة من الناس.. ونقلوا في هذا الصدد قصصاً أُخرى، وحيث أن لم تتّضح صحتها لنا فقد صرفنا عنها النظر.

والذي يلفت النظر أن فرعون في كلامه هذا (ما علمت لكم من إله غيري)كان قد استعمل نهاية الخبث ومنتهى الشيطنة.. إذ كان يرى من المسلّم به أنّه إله!!.. وكان مدار بحثه: هل يوجد إله غيره؟!!.. ثمّ ينفي أن يكون هناك إله سواه إله; لعدم وجود الدليل!!

وفي المرحلة الثّالثة والأخيرة، ومن أجل أن يقيم الدليل على عدم وجود إله غيره بنى ذلك الصرح!.

كل هذه الأُمور تؤكّد جيداً أنّه كان يعرف تلك المسائل، إلاّ أنّه كان يضلل الناس ويصرف أفكارهم عن الحق، ليحفظ موقعه وحكومته!.

بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه، وعدم اذعانهم لمسألتي "المبدأ والمعاد" بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب انكار هذين الاصلين فيقول: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحقّ وظنوا أنّهم إلينا لا يرجعون).

هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يبعد عن نفسه بعوضة، وربّما قتله ميكروب لا يرى بالعين المجرّدة كيف يمكن له أن يدعي العظمة والألوهيّة!؟.

ورد في الحديث القدسي أنّ الله سبحانه يقول: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النّار"(2).

ومن البديهي أنّ الله لا يحتاج إلى أوصاف كهذه.. ولكن حالة الطغيان والعدوان تستولي الإنسان حينما ينسى نفسه، وتملأ ريح الكبر والغرور فكره!

لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟!

يقول القرآن الكريم: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ).

أجل، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرةً لهم!.

من الطريف أنّ القرآن يعبّر بـ"نبذناهم" من مادة "نبذ" على زنة "نبض" ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيداً، تُرى ما قيمة هذا الإنسان الأناني المتكبر المتجبّر الجاني المجرم؟!

أجل، لقد نبذنا هؤلاء الذين لا قيمة لهم من المجتمع البشري، وطهّرنا الأرض من لوث وجودهم.

ثمّ، يختتم الآية بالتوجه إلى النّبي(ص) قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).

هذا النظر ليس بعين "البصر" بل هو بعين "البصيرة"، وهو لا يخص ظلمة الماضي و فراعنة العهد القديم، بل إن ظلمة هذا العصر ليس لهم من مصير سوى هذا المصير المشؤوم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا في شأنهم: (وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون).

هذا التعبير أوجد إشكالا لدى بعض المفسّرين، إذ كيف يمكن أن يجعل الله أناساً أئمة للباطل؟!

ولكن هذا الأمر ليس معقداً.. لأنّه أولا.. إن هؤلاء هم في مقدمة جماعة من أهل النّار، وحين تتحرك الجماعات من أهل النّار، فإنّ هؤلاء يتقدمونهم إلى النّار! فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال، فهم في الآخرة - أيضاً - أئمّة النّار، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم!.

ثانياً.. كونهم أئمّة الضلال - في الحقيقة - نتيجة أعمالهم أنفسهم، ونعرف أن تأثير كل سبب هو بأمر الله، فهم اتخذوا طريقاً يؤدي بهم إلى الضلال وينتهي بهم إلى أن يكونوا أئمّة الضالين، فهذه حالهم في يوم القيامة!.

ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة! (واتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين!) (3) لعنة الله معناها طردهم من رحمته، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحاً ومساءً.. وفي كل وقت.

وأحياناً تشملهم اللعنة العامة.

وأحياناً يأتي اللعن خاصّة لبعضهم.

حيث أنّ كل من يتصفح تأريخهم يلعنهم، ويتنفّر من أعمالهم.

وعلى كل حال فإنّ سوء أعمالهم في هذه الدنيا، هو الذي قبّح وجوههم في الدار الآخرة "يوم القيامة"، لأنّه يوم البروز ويوم هتك الحُجب.

ملاحظة!

أئمّة "النّور" وأئمّة "النّار"

هناك طائفتان من الأئمة في منطق القرآن الكريم، فأئمة للمتقين يهدونهم إلى الخيرات، كما ورد في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(4).

فهؤلاء أئمّة أصحاب مناهج واضحة، لأنّ التوحيد الخالص والدعوة إلى الخير والعمل الصالح والحق والعدالة، تشكّل متن مناهجهم.. فهم أئمّة النور، وخطهم متصل بسلسلة الأنبياء والأوصياء إلى خاتم النّبيين محمّد(ص)وأوصيائه ع.

وهناك أئمّة للضلال.. وقد عبّرت عنهم الآيات محل البحث بأنّهم: (أئمّة يدعون إلى النّار)!.

ومن خصائص هاتين الطائفتين من الأئمّة، كما ورد عن الإمام الصادق(ع)مايلي: "إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان، قال الله تبارك وتعالى: (وجلعناهم أئمّة يهدون بأمرنا)لا بأمر الناس يقدمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، قال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف كتاب الله"(5).

وبهذا المعيار يتّضح معرفة هاتين الطائفتين من الأئمة..ففي يوم القيامة الذي تتمايز فيه الصفوف، كل جماعة تمضي خلف إمامها، فأهل النار إلى النّار، وأهل الجنّة إلى الجنّة.. كما يقول القرآن الكريم: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(6).

وقلنا مراراً: إنّ يوم القيامة تجسم عظيم عن هذا العالم "الصغير" وأُولئك الذين ارتبطوا بإمام معين واقتفوا أثره، فهم سائرون خلفه هناك أيضاً.

ينقل "بشر بن غالب" عن الإمام أبي عبدالله الحسين(ع) أنّه سأله عن تفسير الآية (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فقال(ع): "إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار.. وهو قوله عزّوجلّ (فريق في الجنّة وفريق في السعير)(7).

من الطريف أن فرعون ا لذي تقدّم قومه في هذه الدنيا وأغرقهم بمعيّته في أمواج النيل، يقدم قومه يوم القيامة - أيضاً - يخزيهم بمعيته في نار جهنم، إذ يقول القرآن في شأنه: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النّار وبئس الورد المورود).(8)

ونختم هذا البحث بحديث الإمام علي(ع) في شأن المنافقين حيث يقول(ع): "ثمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النّار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس"(9).


1- يظهر من الرّوايات الإسلامية أنّ موسى(عليه السلام) عمل مع شعيب عشر سنوات، وهذا الموضوع موجود في كتاب وسائل الشيعة، ج 15، الصفحة 34 (كتاب النكاح.. أبواب المهور. الباب 22 - الحديث الرابع).

2- راجع أعلام القرآن، ص 409.

3- كانت لنا بحوث عديدة في هذا المجال، فراجعها إن شئت في "تفسير سورة الأعراف" و "تفسير سورة طه" و "تفسير سورة الشعراء". وفي بعض السور الأُخرى.

4- مقتبس من تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآيات محل البحث، ج 89، ص 362.

5- تفسير روح المعاني، التّفسير الكبير، للفخر الرازي، تفسير الميزان وتفاسير أخر ذيل الآية محل البحث.

6- "المقبوح" مشتق من "القبح" ومعناه السوء. ما فسّره بعضهم بأنّ المقبوح معناه المطرود أو المفضوح أو المغضوب عليه وما شاكلها، فهو من التّفسير بلازم المعنى، وإلاّ فالمقبوح معناه واضح.

7- سورة الأنبياء، الآية 73.

8- تفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

9- الإسراء، 71.