الآيتان 36 - 37
﴿فَلَمَّـا جَآءَهُمْ مُّوسى بِايَـتِنا بَيِّنَـت قَالُوا مَا هَذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرَىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذا فِى ءَابآئِنَا الاَْوَّلِينَ(36) وَقَالَ مُوسى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جآءَ بَالْهُدى مِنْ عِندِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَـقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(37) ﴾
التفسير
موسى في مواجهة فرعون:
نواجه المقطع الثامن من هذه القصّة العظيمة.. لقد تلقى موسى(ع) من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدسة، فوصل إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمِّلَ.. وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما.. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به من في القصر من جماعته وخاصته، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته.. ولكن لنرَ ما جرى هناك - في قصر فرعون - مع موسى وأخيه.
يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع: (فلمّا جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلاّ سحر مفترى).
وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك (ما سمعنا بهذا في بآبائنا الأولين).
فواجهوا موسى متوسّلين بحربة توسّل بها جميع الجبابرة والضالّون على طول التاريخ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم.. وهي حربة "السحر" لأنّ الأنبياء يأتون بأمور خارقة للعادات، و"السحر" خارق للعادة "لكن اين هذا من هذه"؟
السحرة اُناس منحرفون وأهل دنيا وعبيد لها وأساس عملهم قائم على تحريف الحقائق، ويمكن معرفتهم جيداً بهذه العلامة.. في حين أنّ دعوة الأنبياء ومحتواها شاهد على صدق معاجزهم.. ثمّ إنّ السحرة طالما يعتمدون على القدرة البشرية فإنّ عملهم محدود، أمّا الأنبياء الذين يعتمدون على قوّة الهية، فإن معاجزهم عظيمة وغير محدودة!..
التعبير بـ"الآيات البيّنات" عن معاجز موسى(ع) بصيغة الجمع، ربّما يراد به أن معاجز أُخرى غير المعجزتين هاتين، أو أن كل معجزة من معجزتيه مركبة من عدّة معاجز.
فتبديل العصا إلى ثعبان عظيم معجزة، وعودة الثعبان إلى عصا معجزة أُخرى.
والتعبير بـ "مفترى" مأخوذة من "فرية" بمعنى التهمة والكذب لأنّهم قصدوا أنّ موسى يكذب على اللّه!.
والتعبير بـ(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) مع أن نداء الأنبياء ودعوتهم من أمثال نوح وإبراهيم ويوسف(ع) كانا من قبل موسى(ع) في هذه الأرض، فجميعهم دعوا إلى عبادة الله سبحانه.
هذا التعبير أساسه طول المدّة وبعد العهد عليهم، أو أنّهم يريدون أن يقولوا: إنّ آباءنا - أيضاً - لم يذعنوا لدعوة الأنبياء قبلك!.
لكن موسى(ع) أجابهم بلهجة التهديد والوعيد، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار (وقال موسى ربّي اعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبةالدار).
إشارة إلى أنّ الله يعلم حالي، وهو مطلع عليّ بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب.. فكيف يمكن أن يمكنني الله من الأُمور الخارقة للعادات لكي أضل بها عباده؟
فعلمه بحالي ومنحه لي هذه القدرة على الإتيان بالمعجزات دليل على حقانية دعوتي.
ثمّ بعد هذا، الكاذب قد يقضي فترة بين الناس بالكذب والخديعة، لكن سرعان ما يفتضح أمره، فانتظروا لتشهدوا من تكون له العاقبة والإنتصار.. ولمن يكون الخزي والإندحار!؟
ولو كان كلامي كذباً فأنا ظالم و(إنّه لا يفلح الظالمون).
وهذا التعبير يشبه تعبيراً آخر في الآية (69) من سورة "طه" إذْ جاء بهذه الصيغة "ولا يفلح الساحر حيث أتى".
وهذه الجملة لعلها إشارة ا لى الفراعنة المعاندين والمستكبرين ضمناً، وهي أنّكم مقتنعون بمعاجزي ودعوتي الحقّة، ولكنّكم تخالفونني ظلماً.. فعليكم أن تعرفوا أنّكم لن تنتصروا أبداً، والعاقبة لي فحسب.
والتعبير بـ (عاقبة الدار) ربّما كان إشارة لعاقبة الدار الدنيا، أو لعاقبة الدار الآخرة، أو لعاقبة الدارين جميعاً، وبالطبع فإنّ المعنى الثّالث أجمع وأنسب حسب الظاهر.
بهذا المنطق المؤدب أنذر موسى(ع) فرعون وقومه بالهزيمة في هذه الدنيا وفي الأُخرى!.