الآيات 29 - 35
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاَْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَاَنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِّنْها بِخَبَر أَوْ جَذْوَة مِّنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29) فَلَمَّآ أَتَـها نُودِىَ مِن شَـطِىءِ الْوَادِ الاَْيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـرَكَةِ مِنَ الْشَّجَرَةِ أَنْ يَـمُوسى إِنِّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَـلَمِينَ(30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـمُوسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ(31) اسْلُكَ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء واضْمُمْ إِلَيكَ جَنَاحَكَ مَنَ الرَّهْبِ فَذَنِكَ بُرْهَـنَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَونَ وَمَلاَِيْهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوماً فَـسِقِينَ(32) قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(33) وَأَخِى هَـرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِايَتِنآ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـلِبُونَ(35) ﴾
التفسير
الشّرارة الأُولى للوحي:
نصل الآن - إلى المقطع السابع - من هذه القصّة.. لا يعلم أحد - بدّقة - ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب(1)، ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى(ع)سنوات عذبة هادئة، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.
في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسى(ع) مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب، وأن يكون راعياً لغنمه; ليغسل نفسه ممّا تطبّعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.
كان على موسى(ع) أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترةً ليعرف همومهم وآلامهم، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.
ومن جهة أُخرى كان موسى بحاجة إلى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته.
فأيُّ مكان أفضل له من صحراء مدين، وأفضل من بيت شعيب؟!.
إنّ مسؤولية نبي من أولي العزم، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها، بل يمكن أن يقال: إنّ مسؤولية موسى(ع) - بعد مسؤولية النّبي محمّد(ص) - من بين الأنبياء جميعاً، كانت أثقل وأهم، بالنظر لمواجهته الجبابرة على الأرض، وتخليص أمّة من أسرهم، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.
نقرأ في "التوراة" وفي بعض الروايات الإسلامية - أيضاً - أنّ شعيباً قرر تكريماً لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها - في السنة الذي ودّع فيها موسى شعيباً - أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب(2)، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.
ومن البديهي أنّ موسى(ع) لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم، وإن كان وجود "شعيب" إلى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.
فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.
وعليه أن ينهي وجودالظلمة وحكام الجور في مصر، وأن يحطّم الأصنام، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.
وأخيراً جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.
ويستفاد ضمناً من التعبير بـ "الأهل" التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسى(ع) كان عنده هناك غير زوجته ولدٌ أو أولاد، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون، وكما صرّح بهذا المعنى في "التوراة" في سفر الخروج، وإضافةً إلى كل ذلك فإنّ زوجته كانت حاملا أيضاً.
وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق، ولئلا يقع أسيراً بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقاً غير مطروق.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله انس من جانب الطور ناراً) ثمّ التفت إلى أهله و(قال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النّار لعلكم تصطلون)أي (تتدفؤون).
"آنست": مشتقّة من مادة "إيناس" ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة.
"جذوة" هي القطعة من النّار، وقال بعضهم: بل هي القطعة الكبيرة من الحطب.
ويستفاد من قوله (لعلي آتيكم بخبر) أنّه كان أضاع الطريق، كما يستفاد من جملة (لعلكم تصطلون) أن الوقت كان ليلا بارداً.
ولم يرد في الآية كلامٌ عن حالة زوجة موسى، ولكن المشهور أنّها كانت حاملا - كما في كثير من التفاسير والرّوايات - وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة.. وكان موسى قلقاً لحالها أيضاً.
(فلّما أتاها) أي أتى النّار التي آنسها ورآها، وجدها ناراً لا كمثل النيران الأُخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق، بل هي قطعة من النور والصفاء، فتعجب موسى من ذلك (نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إنّي أنا الله ربّ العالمين).
"الشاطىء" معناه الساحل.
و"الوادي" معناه الطريق بين الجبلين، أو ممر السيول.
و"الأيمن" مشتق من "اليمين" خلاف اليسار، وهو صفة للوادي.
و"البقعة" القطعة من الأرض المعروفة الأطراف.
ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شىء، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى.. وموسى بشر له جسم وأذنان ولابدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية.. وطبيعي أن كثيراً من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاماً داخلياً، وأحياناً يرون ما يوحى إليهم في "النوم" كما كان الوحي يأتيهم.
أحياناً - عن طريق سماع الأمواج الصوتية.
وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم، تعالى الله عن ذلك.
وفي بعض الرّوايات ورد أن موسى(ع) حين اقترب من النّار، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدوأجمل، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخصر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء.. ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبساً فأتته ثانية.. وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّة تتجه النّار إليه، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه.
ومن هنا ومع ملاحظة قرائن لا تقبل الإنكار اتّضح لموسى(ع) أنّ هذا النداء هو نداء إلهي لا غير.
ومع الإلتفات إلى أنّ موسى(ع) سيتحمل مسؤولية عظيمة وثقيلة.. فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل الله تعالى مناسبة لمقامه النبوي، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز:
الأُولى قوله تعالى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقب).
ويوم اختار موسى(ع) هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة، ويهشُّ بها على غنمه، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرة العظيمة المودعة من قبل الله.
وأن هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين، وهكذا هي موجودات العالم، نتصور أنّها لا شيء، لكن لها استعدادات عظيمة مودعة في داخلها بأمر الله تتجلى لنا متى شاء.
في هذه الحال سمع موسى(ع) مرّة أُخرى النداء من الشجرة (أقبل ولا تخف إنّك من الأمنين).
"الجانّ" في الأصل معناه الموجود غير المرئي، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضاً; لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية.. كما عبر في بعض الآيات عن العصا بـ (ثعبان مبين) (سورة الأعراف الآية 107 وسورة الشعراءالآية 32).
وقد قلنا سابقاً: إنّ هذا التفاوت في التعابير ربّما لبيان الحالات المختلفةلتلك الحية.. التي كانت في البداية حية صغيرة، ثمّ ظهرت كأنّها ثعبان مبين.
كما ويحتمل أن موسى(ع) رآها في الوادي بصورة حية، ثمّ في المرات الأُخرى بدأت تظهر بشكل مهول (ثعبان مبين) وعلى كل حال، كان على موسى(ع) أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية; لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك، فلا مجال للخوف إذاً.
كانت المعجزة الأُولى آية "من الرعب"، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أُخرى "من ا لنور والأمل" ومجموعهما سيكون تركيباً من "الإنذار" و"البشارة" إذْ جاءه الأمر (أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء).
فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض - كالبرص ونحوه - بل كان نوراً الهياً جديداً.
لقد هزّت موسى(ع) مشاهدته لهذه الأُمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية.. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره (واضمم إليك جناحك من الرهب).
قال بعضهم: هذه العبارة (واضمم إليك جناحك) كناية عن لزوم القاطعية والعزم الراسخ في أداء المسؤولية بالنسبة لرسالته، وأن لا يخاف أو يرهب شيئاً أو أحداً أو قوّة مهما بلغت.
وقال بعضهم: حين ألقى موسى(ع) عصاه فرآها كأنّها "جان" أو (ثعبان مبين)رهب منها، فمدّ يده ليدافع عن نفسه ويطردها عنه، لكن الله أمره أن يضم يده إلى صدره، إذ لا حاجة للدفاع فهي آية من آياته.
والتعبير بـ "الجناح" (الذي يستعمل للطائر مكان اليد للإنسان) بدلا عن اليد في غاية الجمال والروعة.. ولعل المراد منه تشبيه هذه الحالة بحالة الطائر حين يدافع عن نفسه وهو أمام عدوّه المهاجم، ولكنه يعود إلى حالته الأُولى ويضمجناحه إليه عندما يزول عنه العدو ولا يجد ما يرهبه!.
وجاء موسى النداءُ معقّباً: (فذانك برهانان من ربّك إلى فرعون وملئه إنّهم كانوا قوماً فاسقين).
فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى.. فعليك - يا موسى - أن تؤدي وظيفتك بنصحهم، وإلاّ واجهتهم بما هو أشد.
هنا تذكر موسى(ع) حادثةً مهمة وقعت له في حياته بمصر، وهي قتل القبطي، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله.
وبالرغم من أنّ موسى(ع) كان يهدف عندها إلى انقاذ المظلوم من الظالم الذي كان في شجار معه، فكان ما كان.. إلاّ أن ذلك لا معنى له في منطق فرعون وقومه، فهم مصممون على قتل موسى إن وجدوه.. لذلك فإنّ موسى: (قال ربّ إنّي قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون).
وبعد هذا كلّه فإنّي وحيدٌ ولساني غير فصيح (وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إنّي أخاف أن يكذبون).
كلمة "أفصح" مشتقّة من "الفصيح" وهو في الأصل كون الشيء خالصاً، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة "الفصيح" أيضاً.
و"الردء" معناه المعين والمساعد.
وعلى كل حال فلأن هذه المسؤولية كانت كبيرة جدّاً، ولئلا يعجز موسى عن أدائها، سأل ربّه أن يرسل معه أخاه هارون أيضاً.
فأجاب الله دعوته، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.
وبشرهما بالنصر والفوز، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك: إذ قال سبحانه: (فلا يصلون إليكما بآياتنا) فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الاضرار بكما (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
فكان ما أوحى الله إلى موسى أملا كبيراً وبشارةً عظمى اطمأن بها قلبه، وأصبح راسخ العزم والحزم، وسنجد آثار ذلك في الصفحات المقبلة حين نقرأ الجوانب الأُخرى من قصّة موسى(ع) إن شاء الله(3).
1- هذا المضمون نفسه ورد في رواية منقولة في تفسير علي بن إبراهيم، فقال لها شعيب: أمّا قوته فقد عرفتينه إنّه يستقى الدلو وحده، فبم عرفت أمانته؟ فقالت: "إنّه لمّا قال لي تأخري عنّي ودليني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته".
2- قال المحقق الحلي في الشرائع "يصح العقد على منفعة كتعليم الصنعة والسورة من القرآن وكل عمل محلل، وعلى إجارة الزوج نفسه مدّة معينة" ويضيف الفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر بعد ذكر تلك العبارة قوله: "وفاقاً للمشهور" (جواهر الكلام، ج 31، ص 4).
3- مجمع البيان، ج 7، ص 249.