الآيات 18 - 22
﴿فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ (18) فَلَمَّآ أَن أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَـمُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفساً بِالاَْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاَْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَآءَ رُجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعى قَالَ يَـمُوسى إِنَّ المَلأَ يَأتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّـصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَنْ يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ (22) ﴾
التفسير
موسى يتوجّه إلى مدين خُفيةً:
نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير.
حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة، والقرائن المتعددة تدلّ علىأن القاتل من بني إسرائيل، ولعل اسم موسى(ع) كان مذكوراً من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.
وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عادياً، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة.. ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.
لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب)(1).
وهو على حال من الترقب والحذر، فوجيء في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه)(2).
ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و (قال له موسى إنك لغوي مبين)إذ تحدث كل يوم نزاعاً ومشادة مع الآخرين، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس، وأنت اليوم في صراع جديد أيضاً!!
ولكنّه كان على كل حال مظلوماً في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصراً في المقدمات أم لا) فعلى موسى(ع) أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيداً في الميدان، فلمّا أن أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما صاح ذلك القبطي: (ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس) ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنساناً منصفاً (ان تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)(3).
وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسى(ع) كان في نيّته الإصلاح من قبل، سواءً في قصر فرعون أو خارجه، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسى(ع) كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد، لذا فإن القبطي يقول لموسى: أنت كل يوم تريد أن تقتل إنساناً، فأىّ إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسى(ع) لو كان يقتل هذا الجبار، لكان يخطو خطوة أُخرى في طريق الإصلاح.. وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.
ومن جهة أُخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر، فعقد جلسة شورى مع وزارئه وانتهى "مؤتمرهم" إلى أن يقتلوا موسى، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة.. وكما يقول القرآن الكريم: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنّي لك من الناصحين).
ويبدو أنّ هذا الرجل هو "مؤمن آل فرعون" الذي كان يكتم إيمانه ويدعى "حزقيل" وكان من أسرة فرعون، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.
وكان هذا الرجل متألماً من جرائم فرعون، وينتظر أن تقوم ثورة "إلهية" ضده فيشترك معها.
ويبدو أنّه كان له أمل كبير بموسى(ع) إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربّانياً صالحاً ثوريّاً، ولذلك فحين أحسّ بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعة إليه وانقذه من مخالب الخطر، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن فيُ هذا الموقف فحسب سنداً وظهيراً لموسى، بل كان يعدّ عيناً لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.
أمّا موسى(ع) فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة (فخرج منها خائفاً يترقب).
وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و (قال ربّ نجني من القوم الظالمين).
فأنا أعلم ياربّ أنّهم ظلمة ولا يرحمون، وقد نهضت - دفاعاً عن المحرومين - بوجه الظالمين، ولم آل جهداً ووسعاً في ردع الأشرار عن الاضرار بالطيبين، فأسألك - يا ربّي العظيم - أن تدفع عنّي أذاهم وشرّهم.
ثمّ قرر موسى(ع) أن يتوجه إلى مدينة "مدين" التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة.. ولكنه شاب تربّى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره أن يسافر إليه، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل، وكان قلقاً خائفاً على نفسه، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه "مدين" ويأسرونه ثمّ يقتلونه.. فلا عجب أن يظل مضطرب البال!
أجل، إن على موسى(ع) أن يجتاز مرحلة صعبة جدّاً، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه، ليستقرّ أخيراً إلى جانب المستضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه، وأن يتهيأ لنهضة إلهيةلصالحهم وضد المستكبرين.
إلاّ أنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبداً، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير.. (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل)(4).
1- عيون أخبار الرضا طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص119.
2- سورة هود، الآية 114.
3- تحف العقول، ص 66.
4- كان لنا بحثان مستوفيان في مجال إعانة الظالمين في ذيل الآية (2) من سورة المائدة وذيل الآية (112) من سورة هود، فلا بأس بمراجعتهما.