الآيات 7 - 9

﴿وَأَوْحَيْنآ إلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيْهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهـمـنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَـطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْن لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (9) ﴾

التفسير

في قصر فرعون!

من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة.. ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه..

يقول القرآن: (وأوحينا إلى أُمّ موسى أن أرضعيه فإذا خفِت عليه فالقيهفي اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين).

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة:

كانت سُلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطاً واسعاً لذبح "الأطفال" من بني إسرائيل حتى أن القوابل (من آل فرعون) كن يراقبن النساء الحوامل (من بني إسرائيل).

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسى(ع) "وكان الحمل خفيّاً لم يظهر أثره على أم موسى" وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع، وأنّها تحمل جنيناً في بطنها وتوشك أن تضعه، فهي بحاجة - هذا اليوم - إليها.

وحين ولد موسى(ع) سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطُبع حُبُّه في قلبها، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها: كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه "وأنال بذلك جائزتي" ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه، فاهتمي بالمحافظة عليه، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيراً.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر، فارتبكت ولم تدر ماذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الإرتباك وهي ذاهلة لفت وليدها "موسى" بخرقة وألقته في التنور فاذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار، فلم يجدوا شيئاً إلاّ التنور المشتعل ناراً.. فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت: إنّها صديقتي وقدجاءت زائرة فحسب، فخرجوا ايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت "أخت موسى" عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالماً وقد جعل الله النّار عليه برداً وسلاماً "الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود" فأخرجت وليدها سالماً من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر، ولكن مع ذلك أحسّت بالإطمئنان أيضاً.

كان ذلك من الله ولابدّ أن يتحقق، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري "وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضاً" فطلبت منه أن يصنع صندوقاً صغيراً.

فسألها النجار قائلا: ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الاُمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلاّدين، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة، فظن أُولئك أنّه يستهزىء بهم فضربوه وطردوه، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأُولى من الإرتجاج والعيّ، وأخيراً فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجراً والناس - بعد - نيام، وفي هذه الحال خرجت أمموسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل.. وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج، فلولا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولإنكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور - في تلك اللحظات الحساسة - قلب الأُم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أُم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة "پروين اعتصامي" - بتصرف - تحكي صورة "تقريبية" عن ذلك الموقف:

أمّ موسى حين ألقت طفلها للذي رب السما أوحى لهانظرت للنيل يمضي مسرعاً آه لو تعرف حقاً حالهاودوي الموج فيه صاخب وفتاها شاغل بلبالهاوتناغيه بصمت: ولدي كيف يمضي بك هذا الزورقدون ربان، وإن ينسك من هو ذو لطف فمن ذا يشفقفأتاها الوحي: مهلا، ودعي باطل الفكر ووهما يزهقإن موسى قد مضى للمنزل فاتق الله ولا تستعجليقد تلقينا الذي ألقيته بيد ترعى الفتى لا تجهليوخرير الماء أضحى مهده في اهتزاز مؤنس إن تسأليوله الموج رؤوماً حدبا فاق من يحدب أمّا وأباكل نهر ليس يطغى عبثاً إن أمر الله كان السببايأمر البحر فيغدو هائجا وله الطوفان طوعاً مائجاعالم الإيجاد من آثاره كل شيء لعلاه عارجاأين تمضين دعيه فله خير ربّ يرتضيه لا هجاكل هذا من جهة!..

ولكن تعالوا لنرى مايجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة، ولم يكن له من الأبناء سواها، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له: نتكهّنُ ونتوقع أن إنساناً يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها، وكان فرعون وزوجه "آسية" في انتظار هذا "الحادث" وفي يوم من الأيّام.. فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق "المجهول" الخفيّ أمام فرعون، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبّه في قلوب الجميع، ولا سيما قلب امرأة فرعون "آسية".. وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(1).

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن في هذا الصدد: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً).

كلمة "التقط" مأخوذة من مادة "التقاط" ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها "لقطة" للسبب نفسه أيضاً.. وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدواً لدوداً، بل أرادوه - كما قالت امرأة فرعون - قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة..كان ما كان وحدث ما حدث.. وكما يقول علماء الأدب: إنّ اللام في الآية هنا (فالتقطه آل فرعون ليكون..) هي "لا العاقبة" ليست "لام العلة" ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته، وكيف أن هذه الجماعة "الفراعنة" عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل، وإذا الذي أرادوا قتله - وكانت كل هذه المقدمات من أجله - يتربى في أحضانهم كأعزّ ابنائهم.

والتعبير - ضمناً - بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحداً، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول: (إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين).

كانوا خاطئين في كل شيء، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى(ع)، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم: خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(2)

ويستفاد من الآية التالية أن شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (وقالت امرأة فرعون قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً..).

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأُخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت "الصندوق" وإلقاءه بين أمواج النيل، وما إلى ذلك - أن هذا الطفل من بني إسرائيل، وأن زوال ملكه على يده، فجثم كابوسٌ ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة، وقالوا: ينبغي أن يذبح هذا الطفل، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، ولم يكن قلبها منسوجاً من قماش عمال قصر فرعون، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى - على ما قدمناه - فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن - بجملة مقتضية وذات مغزى كبير - ختم الآية قائلا: (وهم لا يشعرون!).

أجل، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة، ولا يمكن مخالفتها أبداً..

ملاحظة

تخطيط الله العجيب..

إظهار القدرة.. ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوماً جبارين، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض، فيهلكهم ويدمرهم تدميراً.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم، وأن يصنعوا لأنفسهم سجناً يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!..

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّاً.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيراً فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى - البطل الذي قهر فرعون - هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.


1- الغيبة للشيخ الطوسي حسب نقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 110.

2- مجمع البيان ذيل الآية.