الآيات 86 - 88

﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوم يُؤمِنُونَ (86) وَيَومَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَنْ شَآءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾

التّفسير

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة:

مرّة أُخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة الله، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للايمان (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة، ونظامي النور والظلمة، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً.. وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية... ونحن نعرف أن أصول التعليموالتربية تقتضي أحياناً أن يتكرر الموضوع في "فواصل" مختلفة، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها، فسُدل الليل ليست أسباباً إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية - أيضاً - ولا مجال للتردد فيها.

فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.

فهذه الآية توضح جانباً من التوحيد الرّبوبي، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ "عالم الوجود" ومدبّره، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان!... وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.

وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النظام، فيستريح في الليل ويسعى في النهار، ليبقى نشطاً صحيحاً دائماً... لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظاً ساهراً وينام النهار حتى الظهر!.

والطريف أن كلمة "مبصر" نسبت إلى النهار ووصف بها، مع أنّها وصف للإنسان في النهار، وهذا نوع من التأكيد الجميل للإهتمام بالنشاط في النهار، كما يوصف الليل أحياناً بأنه "ليل نائم" (1).

وهذا التفاوت في التعبير في الآية، هو لبيان فائدة الليل والنهار، إذ جاء في شأن الليل (لتسكنوا فيه) وعبر عن النهار بـ(مبصر) فلعل هذا الإختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والإستمتاع بها "فلاحظوا بدقة".

وعلى كل حال، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرةً عن التوحيد وتدبير عالم الوجود، إلاّ أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد، لأنّ النوم بمثابة الموت، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها، فتقول: (و) اذكر (يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله وكلّ أتوه داخرين) أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.

فالمرّة الأُولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله!

والثّانية "عند النفخ" يموت الجميع من سماع الصيحة، ولعل هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة.. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه النفخة، وتبدأ الحياة الجديدة معها.

وهناك كلام بين المفسّرين إلى أنّ الآية محل البحث هل تشير إلى النفخة الأُولى أم الثّانية أم الثّالثة؟!.. القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين، وقيل: بل هي تشمل الجميع.

إلاّ أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأُولى التيتقع في نهاية الدنيا، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الإستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب، يعدّ من آثار هذه النفخة... ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.

وبتعبير آخر: إن ظاهر "فاء" التفريع في "ففزغ" أن الفزع ناشىء من النفخة في الصور، وهذا خاص بالنفخة الأولى، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب، بل هي مدعاة للحياة والحركة، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور، ؟هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (68) من سورة "الزمر" بإذن الله!.

وأمّا جملة (إلاّ من شاء الله) المذكورة للإستثناء من الفزع العام، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواءً كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأُولى ولا الأُخرى.. إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون).

وأمّا جملة (وكل أتوه داخرين) فظاهرها عامٌ وليس فيه أي استثناء، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (127) من سورة الصافات: (فإنّهم لمحضرون إلاّ عباد الله المخلصين)، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع، فتقول: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي اتقن كلشيء)(2).

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق، لا ريب في علمه و (إنّه خبير بما تفعلون).

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض، وقد اشير إلى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كراراً.

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.

إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.

وتوضيح ذلك:

1 - إنّ الآية تقول: تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب.. وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة.. لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى).(3)

2 - تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.

3 - التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة، إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة "على حالتها التي ترى فيها جامدة" أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً.

4 - والتعبير بـ "الإتقان" الذي يعني الإحكام والتنظيم، يتناسب زمان استقرار نظام العالم، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.

5 - جملة (إنّه خبير بما تفعلون) مع ملاحظة أنّ "تفعلون" فعل مضارع، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا، لأنّها تقول: إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل.

ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم، لكان ينبغي أن يقال: إنّه خبير بما فعلتم.

"فتأملوا بدقّة".

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه).

وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد، وقسم منها في المعاد!.

وما نستنتجه من هذا التّفسير، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة "جامدة" هي في سرعة مطرّدة في حركتها... ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.

ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (30) كيلومتر في كل دقيقة، وسرعة سيرها في حركتها الإنتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار...

لكن علام عُني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها، وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه، فحيث أن هذهالجبال على عظمتها وما فيها من ثقل، تتحرك كالسحاب بأمر الله "مع ا لأرض" فقدرته على كل شيء "بينة، وثابتة"!

وعلى كل حال، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية... لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو "غاليو" الإيطالي و"كبرنيك" اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكماً صارماً، وتعرضاً لمضايقات كثيرة..

إلاّ أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريباً وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!

ويرى بعض فلاسفة الإسلام، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم، أن الآية ناظرة إلى "الحركة الجوهرية" في الأشياء، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(4)


1- يعني "بالرجعة".

2- بحار الأنوار، ج 53، ص 122.

3- بحار الانوار، ج 53، ص 39.

4- الأنعام، الآية 28.