الآيات 82 - 85

﴿وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَِآيَـتِنَا لاَيُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـآيَـتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَآ جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَـتِى وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَيَنطِقُونَ (85) ﴾

التفسير

لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك، وكانوا يقولون للنّبي(ص): (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).

ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات - محل البحث - تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة، فتقول: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).

والمراد من قوله تعالى: (وقع القول عليهم) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء.. أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها، العلائم التي يخضع لها كل من يراها، ويستسلم لأمر الله، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق، وأنالقيامة قد اقتربت.. وحينئذ توصد أبواب التوبة... لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطراراً.

وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.

ولكن ما هي "دابة الأرض"؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟.. فالقرآن يجمل ولا يفصل، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضاً، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيراً وباعثاً على التهويل.

فيقول مختصراً: يُخرج الله موجوداً يتحرك "أو دابة من الأرض" بين يدي القيامة، فيتكلم مع الناس ويقول: "إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله".

وبتعبير آخر: إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.

وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!

وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات "دابة الأرض" وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين، الشيعة وأهل السنة، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.

ثمّ تشير الآيات إلى علامة أُخرى من علامات القيامة، فتقول: (ويوم نحشر من كل أمّة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون).

"والحشر" معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و"الفوج"، كما يقول الراغب في المفردات: الجماعة التي تتحرك بسرعة.

وأمّا "يوزعون" فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل.. وهذا التعبير يطلق - عادة - على الجماعات الكثيرة، نظير ما قرأنا فيشأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.

فبناءً على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوماً سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أُمّة جماعة، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة.. لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله "نحشر من كل أُمّة فوجاً" صحيحاً.. إذ في القيامة يكون الحشر عاماً للجميع، كما جاء في الآية (47) من سورة الكهف قوله تعالى: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً).

والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضاً... فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة، وهذه الآيات محل البحث - فقط - تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله، إلاّ أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة، وقالوا: إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الإنسجام بين الآيات الذي يُحدثه هذا التّفسير، فقالوا: إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم، فكأن الآية (83) حقّها أن تقع بعد الآية (85).

إلاّ أنّنا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضاً.

(حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أمّاذا كنتم تعملون)(1).

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه، والمراد من "الآيات" هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، أو أوامر الله، أو الجميع!.

والمراد من جملة (ولم تحيطوا بها علماً) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر، كذبتم الآيات، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئاً دون أن يتحقق منه!.

وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.

الأوّل: تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.

والآخر: عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.

وإذا كانت الآية - آنفة الذكر - تتحدث عن القيامة، فمفهومها واضح.

وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة - كما يقتضيه انسجام الآيات - فهي إشارة إلى أنّه عندما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين... فولي الأمر الذي يمثل الله، وهو خليفته في الأرض، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة، كما أن كثيراً من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا، ويستوفون جزاءهم، فإذا لم يتوبوا فإنّ مايستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أىّ من هذين السؤالين، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة: (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون).

وهذا القول أو العذاب دنيوي، إذا فسّرنا الآية بالرجعة، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.

بحوث

1- ما هي دابة الأرض؟!

"الدّابة" معناها ما يدب ويتحرك، و"الأرض" معناها واضح.. وخلافاً لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان... بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضاً، كما نقرأ في الآية (رقم 6) من سورة هود (وما من دابة في الأرض إلاّ على اللّه رزقها)، وفي الآية (61) من سورة النحل (ولو يُؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة).

وفي الآية (22) من سورة الأنفال (إن شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون).

إلاّ أنّه - كما ذكرنا في تفسير الآية آنفاً - فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن... إلاّ أنّ هناك كلاماً طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين:

1- فطائفة تعتقد بأنّ هذه "الدابة" حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، وتتحدث عن الإيمان والكفر، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!

2- وطائفة تعتقد - حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن - أنّها إنسان فوق العادة - إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم.. حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسى(ع) وخاتم سلميان.. ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذاً هذا الإنسان رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!

وقد جاء في حديث عن "حذيفة بن اليمان" عن رسول الله(ص) في وصف هذه الدابة قوله: "لايدركها طالب ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيهويُكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان" (2).

وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على "أمير المؤمنين"(ع) ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق(ع) أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر: في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار: أيّةُ آية هي؟ قال: آية (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) فيقول عمار: والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاماً ولا أشرب ماءً حتى أريكها.

ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي، وهو يأكل طعاماً فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.

فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض، فكأنّه نسي وعده!.

فلمّا قام عمار وودّع عليّاً.. قال له الرجل: عجيب منك أن تقسم بالله أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض، حتى تريني دابة الأرض!... فقال له عمار: أريتكها لو كنت تعقل (3).

ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي، إلاّ أنّه ورد اسم "أبي ذر" مكان عمار(4).

وينقل العلاّمة المجلسي(رحمه الله) في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادق(ع)قال: انتهى رسول الله(ص) إلى أميرالمؤمنين(ع) وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه، فحرّكه برجله، ثمّ قال: قم يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضاً بهذا الإسم؟

فقال لهم: "لا والله ما هو إلاّ له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (فإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلّمهم أنّ النّاس كانوا بآياتنا لا يوقنون) ثمّ قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، ومعك ميسم تسم به أعداءك" (5).

وبناءً على هذه الرّواية، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.

ويقول المرحوم "أبو الفتوح الرازي" في تفسيره في ذيل الآية: طبقاً للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي "صاحب الزمان (ع)" (6).

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.

وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسى(ع) التي هي رمز القوة والإنتصار، وخاتم سليمان(ع) الذي يرمز للحكومة الإلهية، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.

كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيُكتب مؤمناً، وتسم الكافر فيُكتب كافراً ينسجم والقول بأنّها إنسان!.

إضافة إلى ذلك فالتصريح في القرآن بأنّها تكلم الناس يساعد على هذا المعنى!.

ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق في الأغلب على غير الناس، وقد استعملها القرآن في الأعم من الإنسان وغيره أو في خصوص الإنسان، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى فالقرائن المتعددة الموجودة في الآية ذاتها، والرّوايات الكثيرة في تفسير الآية، تدل على أنّ المراد من "دابة الأرض" هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفاً، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق!.

2- الرجعة في الكتاب والسنة!

من المسائل التي تجدر بالملاحظة، في الآيات - محل البحث - ظهور بعض من هذه الآيات في مسألة الرجعة!.

و"الرجعة" من عقائد الشيعة المعروفة، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو: "بعد ظهور المهدي(ع) وبين يدي القيامة، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص، وطائفة من الكفار الأشرار، إلى هذه الدنيا.. فالطائفة الأُولى تصعد في مدارج الكمال... والطائفة الثّانية تنال عقابها الشديد!.

يقول "الشريف المرتضى" الذي هو من أعاظم الشيعة: إنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه، أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام المهدي(ع) أقواماً ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوز بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله!

ثمّ يضيف السيد المرتضى قائلا: والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، فإنا نرى كثيراً من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور، فالدليل إلى إثباتهاإجماع الإمامية على وقوعها(7).

ويظهر بالطبع - من كلمات بعض قدماء علماء الشيعة وكذلك من كلام العلامة "الطبرسي" في مجمع البيان - أن "الأقليّة" القليلة من الشيعة لا تؤمن بهذه العقيدة، أي "الرجعة" وفسّروها بعودة حكومة أهل البيت(ع)، لا رجوع الأشخاص وحياتهم بعد موتهم في هذه الدنيا، إلاّ أنّ مخالفة هذه القلة لا تؤثر في الإجماع.

وعلى كل حال، فهنامطالب كثيرة، ومن أجل ألاّ نخرج عن أسلوب بحثنا نشير إليها بإيجاز في مايلي:

1 - لا ريب أنّ إحياء جماعة من الموتى في هذه الدنيا ليس محالا!... كما أن إحياء جميع البشر في يوم القيامة ممكن، والتعجب من هذه المسألة كتعجب المشركين "من أهل الجاهلية" من مسألة المعاد، والسخرية منها كالسخرية من المعاد!... لأنّ العقل لا يحكم على مثل هذا الأمر بالإستحالة... وقدرة الله واسعة بحيث أنّ هذه الأُمور عندها سهلة يسيرة هيّنة!.

2 - جاء ذكر الرجعة في القرآن المجيد إجمالا، ووقوعها في خمسة مواطن في شأن الأُمم السالفة.

ألف: في ما يتعلق بالنّبي الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك.

فتساءل في نفسه وقال: (أنّى يحيى هذه الله بعد موتها) فأماته الله مئة عام ثمّ أحياه فقال له: كم لبثت؟! قال: لبثت يوماً أو بعض يوم قال: بل لبثت مئة عام "مؤدّى الآية 259 - من سورة البقرة".

وسواءً كان هذا النّبي عزيراً أم سواه، فلا فرق في ذلك، المهم أنّ القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله مئة عام ثمّ بعثه!.

ب - يتحدث القرآن - في الآية (243) من سورة البقرة ذاتها - عن جماعة أُخرى خرجت من ديارها خوفاً من الموت، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجّة مرض الطاعون، فأماتها الله ثمّ أحياها (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال الله لهم موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون).

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة، وعدوها مثالا فحسب، إلاّ أنّ من الواضح أنّ مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية - بل صراحتها - لا يمكن المساعدة عليه!.

ج - وفي الآيتين 55 و 56 من سورة البقرة أيضاً، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون).

د - ونقرأ في الآية (110) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى: (وإذ تخرج الموتى بإذني).

ويدل هذا التعبير على أنّ المسيح(ع) أحيا الموتى فعلا، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدلّ على أنّه أحيا الموتى مراراً، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعاً من الرجعة لبعضهم!

هـ - وأخيراً ففي الآيتين (72) و (73) من سورة البقرة، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة - الواردة خصائصها في الآية 72 - إذ يقول سبحانه: (وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون).

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها، فهناك مواطن أخرُ في القرآن، منها قصّة أصحاب الكهف، وهي قصّة تشبه الرجعة.

وقصّة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعياً بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءاً منهنّ، ليتّضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسداً برجوع هذهالطيور إلى الدنيا.

وعلى كل حال! كيف يمكن أن يؤمن الشخص بالقرآن وأنّه كتاب سماوي، ثمّ ينكر هذه الآيات الواضحة في الرجعة؟ وهل الرجعة - أساساً - إلاّ العودة للحياة بعد الموت؟!

أوليست الرجعة مثلا مصغراً من القيامة في هذه الدنيا.

فمن يؤمن بالقيامة بمقياسها الواسع، كيف يمكنه أن يعترض على مسألة الرجعة وأن يسخر منها؟! وأن يقول قائل كأحمد أمين المصري في كتابه "فجر الاسلام" اليهودية ظهرت بالتشيع بالقول بالرجعة(8).!!

وأي فرق بين كلام أحمد أمين هذا، وإنكار عرب الجاهلية لمسألة المعاد الجسماني؟!

3 - ما ذكرناه - إلى هنا - يثبت إمكان الرجعة، وأمّا ما يؤيد وقوعها فروايات كثيرة نقلها الثقات عن أئمّة أهل البيت(ع) وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها، فيكفي أن نذكر ما عدّه المرحوم العلاّمة المجلسي في بحار أنواره وما جمعه منها، إذ يقول: وكيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهار(ع) فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح (9)، رواها نيّفٌ وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم.. فإذا لم يكن مثل هذا متواتراً ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر(10)؟!

4 - فلسفة الرجعة!

إنّ أهم سؤال يثار في هذا الصدد، هو: ما الهدف من الرجعة قبل يوم القيامة؟!

ومع ملاحظة ما يستفاد من الرّوايات الإسلامية من أنّ هذا الموضوع ليس عامّاً بل يختصّ بالمؤمنين الخلّص الذين هم في مرحلة عالية من الإيمان، والكفار والطغاة الظلمة الذين هم في مرحلة منحطة من الكفر والظلم.. فيبدو أن الرجعة لهاتين الطائفتين للدنيا ثانيةً هي من أجل إكمال الطائفة الأُولى حلقتها التكاملية، وأن تذوق الطائفة الثّانية جزاءها الدنيوي.

وبتعبير آخر: إن الطائفة المؤمنة "خالصة الإيمان" الذين واجهوا الموانع والعوائق في مسير تكاملهم المعنوي في حياتهم ولم يتكاملوا الكمال اللائق باستعدادهم، فإنّ حكمة الله تقتضي أن يتكاملوا عن طريق الرجعة لهذه الدنيا وأن يكونوا شهداء الحكومة العالميّة للحقّ والعدل، وأن يساهموا في بناء هذه الحكومة، لأنّ المساهمة في بناء مثل هذه الحكومة من أعظم الفخر!.

وعلى عكس الطائفة الآنفة الذكر، هناك طائفة من المنافقين والجبابرة المعاندين، ينبغي أن ينالوا جزاءهم الدنيوي بالإضافة إلى جزاءهم الأخروي، كما ذاق - قوم فرعون وثمود وعاد وقوم لوط جزاءهم - ولا طريق لأن يذوقوا عذاب الدنيا إلاّ بالرجعة!.

يقول الإمام الصادق(ع) في بعض أحاديثه "إن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصّة، لا يرجع الاّ من محض الإيمان محضاً، أو محض الشرك محضاً"(11).

ولعل الآية (95) من سورة الأنبياء (وحرام على قرية أهلكناها إنّهم لا يرجعون) تشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّها تتحدث عن عدم رجوع أُولئك الذين ذاقوا عذابهم الشديد في هذه الدنيا، فيتّضح منها أن أُولئك الذين لم يذوقوا مثل هذا الجزاء ينبغي أن يرجعوا، فيذوقوا عذابهم "فلاحظوا بدقة".

كما يرد هذا الإحتمال أيضاً، وهو أنّ رجعة "الطائفتين هاتين" في ذلك المقطع الخاص من الزمان هي بمثابة درسين كبيرين وآيتين مهمتين من آيات عظمة الله - ومسألة القيامة و"المبدأ والمعاد" - للناس، ليبلغوا أسمى درجات

الكمال المعنوي بمشاهدتهما ويزداد إيمانهم... ولا يكونوا مفتقرين إلى شيء أبداً.

5- ويتصور بعضهم أنّ الإعتقاد بالرجعة لا ينسجم وأصل حرية الإرادة والإختيار عند البشر!.

وممّا بيّناه آنفاً يتّضح أنّ هذا اشتباه محض، لأنّ رجوع من يرجع إلى هذه الدنيا سيكون في ظروف طبيعية، ويتمتع بحرية كاملة.

وما يقوله بعضهم بأنّه من الممكن أن يتوب الجبابرة والكفار المعاندون بعد الرجعة ويعودوا إلى الحق، فجوابه أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظلم والفساد والكفر بحيث أن هذه الاُمور مندمجة مع روحهم ونسيجهم ولا يتصور توبتهم!.

كما أنّ القرآن يحكي في ردّه على طلب أهل النّار يوم القيامة الرجوع إلى الدنيا، ليقضوا ما فاتهم ولا يعملوا السيئات... فيقول: (ولو ردّوا لعادوا لما نُهوا عنه).

(12)

كما يتّضح الجواب على إشكال بعضهم من أنّ الرجعة لا تنسجم مع الآية (100) من سورة المؤمنون لأنّه طبقاً لهذه الآية فإن المشركين يطلبون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا صالحاً، ويقول كل منهم: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) فيرد عليه بالقول: (كلا إنّها كلمة هو قائلها).

فالجواب على هذا الإشكال، أن هذه الآية عامة والرجعة خاصة "فلاحظوا بدقة".

6- وآخر الكلام هنا أنّ الشيعة مع اعتقادهم بالرجعة التي أخذوها عن أهل البيت(ع) فإنّهم لا يحكمون على منكري الرجعة بالكفر، لأنّ الرجعة من ضروريّات المذهب الشيعي لا من ضروريات الإسلام.

فبناءً على ذلك فإنّ هذه المسألة لا تقطع وشائج الأخوة الإسلامية مع

الآخرين.. إلاّ أن الشيعة تواصل دفاعها المنطقي عن عقيدتها هذه.

وينبغي الإلتفات إلى أن هناك خرافات تمتزج أحياناً بالرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض، فينبغي أن نعول على الأحاديث الإسلامية الصحيحة في الشأن، وأن نتجنب الأحاديث المطعون فيها أو المشكوكة.

وما ذكرناه هنا خلاصة موجزة عمّا يتعلق بالرجعة، وينبغي مراجعة الكتب التي تتحدث عن هذا الشأن لمن أراد أن يستزيد ويعرف خصائص أخر للرجعة أو جزئياتها.

ومع ملاحظة هذا المقدار الذي بيّناه يتّضح الجواب على الحملات المسعورة من قبل أُولئك الذين لم يطّلعوا على هذا الموضوع من إخواننا أهل السنة "كما فعل "الآلوسي" في تفسيره روح المعاني ذيل الآيات محل البحث" وأن إشكالهم على مسألة الرجعة ناشىء من عدم تعقلهم لها حتى عدّوها أسطورة!.


1- لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الإرتياب ص 109 للسيد محسن الأمين العاملي.

2- صحيح البخاري، ج 5، ص 97، باب قتل أبي جهل.

3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 248.

4- نهج البلاغه - الكلمات القصار رقم 130.

5- جملة (أمّاذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة الإستفهام عادة، وتسمّى بالمعادلة، و(ما) الإستفهامية. ومعنى الآية: أو أىّ شيء كنتم تعملون.

6- مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

7- مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث..

8- المصدر السابق.

9- بحار الأنوار، ج 53، ص 52، خ 3.

10- تفسير الرازي، ج 8 ص 423.

11- سفينة البحار، ج 1، ص 511، مادة رجع.

12- انظر عقائد الإمامية - للشيخ محمّدرضا المظفر ص 71.