الآيات 56 - 59

﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوآ أَخْرِجُوا ءَالَ لُوط مِّنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَـهَا مِنَ الْغَـبِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَـمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَاللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾

التّفسير

عندما تُعدُّ الطهارة عيباً كبيراً!

لا حظنا - في ما سبق من البحوث - منطق نبي الله العظيم "لوط"، ذلك المنطق المتين أمام المنحرفين الملوثين، وبيانه الإستدلالي الذي كان يعنّفهم على عملهم القبيح، ويكشف لهم نتيجة جهلهم وعدم معرفتهم بقانون الخلق وبجميع القيم الإنسانية.

والآن، لنستمع إلى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق "لوط"؟!

يقول القرآن: (فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون).

فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد!.

أجل.. إنّ الطهارة تعدّ عيباً ونقصاً في المحيط الموبوء، وينبغي أن يلقى أمثال يوسف المتعفف في السجن، وأن يطرد آل لوط نبيّ الله العظيم ويبعدوا - لأنّهم يتطهرون - خارج المدينة، وأن يبقى أمثال "زليخا" أحراراً أولي مقام... كما ينبغي أن يتمتع قوم لوط في مدينتهم دون حرج!.

وهذا هو المصداق الجلي لكلام القرآن في الضالين، إذ يقول: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ) بسبب أعمالهم السيئة المخزية.

ويحتمل في جملة (إنّهم أناس يتطهرون) أن قوم لوط لإنحرافهم وغرقهم في الفساد، وتطبعهم وتعودهم على التلوّث، كانوا يقولون مثل هذا الكلام من باب السخرية والإستهزاء.. أي إنّهم يتصورون أن أعمالنا قبيحة وغير طاهرة! وأن تقواهم من التطهر، فما أعجب هذا الكلام! إنه لمهزلة!.

وليس هذا غريباً أن يتبدل إحساس الإنسان - نتيجة تطبعه بعمل قبيح - فيتغير سلوكه ونظرته.. فقد سمعنا بقصّة الدباغ المعروفة، إذ ورد أن رجلا كان يدبغ الجلود المتعفنة دائماً، وتطبعت "شامّته" برائحة الجلود "العفنة" فمرّ ذات يوم في سوق العطارين، فاضطرب حاله وأُغمي عليه، لأنّ العطور لا تناسب "شامّته" فأمر رجل حكيم أن يؤخذ إلى سوق الدباغين لانقاذه من الموت... فهذا مثال حسىّ طريف لهذا الموضوع المنطقي.

جاء في الرّوايات أن لوطاً كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاماً وينصحهم، إلاّ أنّه لم يؤمن به إلاّ أسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم(1).

بديهي أن مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا، فينبغي أن يطوى "طومار" حياتهم، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن (فأنجيناه وأهله إلاّ امرأته قدرناها من الغابرين)(2).

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين "سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد" فلمّا أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء، وتزلزت الأرض بهم، فدفنوا جميعاً تحت الحجارة والأنقاض، والى هذا تشير الآية الكريمة التالية (وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المُنذرين).

وكان لنا بحث مفصل في قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة وآثار الإنحراف الجنسي، في ذيل الآيات 77 - 83 من سورة هود، ولا حاجة إلى تكراره.

إن قانون الخلق عيّن لنا مسيراً لو سلكناه لكان ذلك مدعاة لتكاملنا وحياتنا، ولو انحرفنا عنه لكان باعثاً على سقوطنا وهلاكنا.

فقانون الخلق جعل الجاذبية الجنسية بين الجنسين المتخالفين عاملا لبقاء نسل الإنسان واطمئنان روحه.

وتغيير المسير نحو الإنحراف الجنسي "اللواط أو السحاق" يذهب بالإطمئنان الروحي.. والنظام الإجتماعي.

وحيث أن لهذه القوانين الإجتماعية جذراً في الفطرة، فالتخلف "أو الإنحراف" يسبب الإضطراب وعدم الإنسجام في نظام وجود الإنسان!.

فلوط نبيّ الله العظيم نبّه قومه المنحرفين إلى هذا الاساس "الفطري" فقال لهم: (أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون)؟!

فالجهل وعدم معرفتكم بقانون الحياة والسفاهة هو الذي يقودكم إلى الضلال والتيه!.

فلا عجب أن تتغير سائر قوانين الخلق في شأن هؤلاء القوم الضالين، فبدلا من أن يغاثوا بماء من السماء يهب الحياة يمطرون بالحجارة.. وبدلا من أن تكون الأرض مهاداً وثيراً لهم تضطرب وتتزلزل ويُقلب عاليها سافلها، لئلا يقتصر الحال على هلاكهم فحسب، بل لتمحى آثارهم!.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه المنحرفين، يتوجه الخطاب إلى النّبي الكريم "محمّد"(ص) ليستنتج ممّا سبق، فيقول له: (قل الحمد لله).

الحمد والثناء الخاص لله، لأنّه أهلك أُمماً مفسدين كقوم لوط، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم!.

الحمد لله الذي أبار قوم صالح ثمود، وفرعون وقومه المفسدين، وجعل آثارهم عبرة للمعتبرين.

وأخيراً فالحمد لله الذي أنعم وتفضل على عباده المؤمنين... كداود وسليمان وأمثالهما، وأولاهم القوّة والقدرة، وهدى القوم الضالين كقوم سبأ.

ثمّ يضيف قائلا: (وسلام على عباده الذين اصطفى).

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، ومن والاهم بإحسان.

ثمّ يقول: (آلله خير أمّا يشركون)(3)!!

رأينا في قصص هؤلاء الأنبياء أن الأصنام لم تستطع عند نزول البلاء أن تسعف اتباعها، أو تقوم بأدنى مساعدة لهم! غير أن الله سبحانه لم يترك عباده وحدهم في هذه الخطوب، بل أعانهم بلطفه الذي لا ينفذ!


1- راجع الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، والقرطبي في تفسيره المعروف، ذيل الآيات محل البحث.

2- مجمع البيان ذيل الآية محل البحث..

3- تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث..