الآيات 204 - 212

﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204) أَفَرَءَيْتُ إِن مَّتَّعْنَـهُمْ سِنِينَ(205) ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ(206) مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ(207) وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ(208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَـلِمِينَ(209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيـطِينُ(210) وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)﴾

التّفسير

تهمة اُخرى للقرآن:

حيث أن الآيات المتقدمة ختمت بجملة (هل نحن منظرون) التي يقولُها المجرمون عندما يأتيهم العذاب بغتة وهم علا أبواب الهلاك، طالبين الإِمهال والرجوع للتعويض عما فاتهم من الأعمال. فالآيات محل البحث تردُّ عليهم عن طريقين:

الأوّل قوله تعالى: (أفبعذابنا يستعجلون).

إشارة إلى أنّه طالما استهزأتم أيّها المجرمون، وسخرتم من أنبيائكم، وطلبتم منهم نزول العذاب بسرعة... لكن حين أصبحتم في قبضة العذاب تطلبون الإمهال لتعوضوا عمّا فات من الأعمال، وكنتم ترون الأمر لهواً ولعباً في يوم، لكن في اليوم الآخر وجدتموه جديّاً - وعلى كل حال فإنّ سنة الله أن لا يعذب قوماً حتى يُتمّ عليهم الحجّة البالغة... لكن اذا تمّت الحجة، وفسح لهم المجال، ولم يثوبوا الى رشدهم أنزل عذابه فلا ينفع الإبتهال، والرجوع نحو ساحة ذي الجلال.

والآخر أنّه (أفرأيت إن متّعناهم سنين ثمّ جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كان يمتّعون).

فعلى فرض أنّهم أُمهلوا ثانية (ولن يُمهلوا بعد إتمام الحجة عليهم) وعلى فرض أن يُعمَّروا سنين طوالا في هذه الدنيا ويغرقوا في بحر الغفلة والغرور، الا يكون عملهم التمتع والتلذذ بالمواهب الماديّة فحسب. وهل يعوضون عما فاتهم؟! كلاّ أبداً.. فمن المسلّم أنّهم لا يعوضون عمّا فاتهم. وهل تغني المواهب المادية عنهم شيئاً عند نزول العذاب؟ وهل تحلَّ مشكلتهم أو تحدث تغييراً في عاقبتهم؟!

كما يَرِدُ هذا الإحتمال في تفسير الآيات الآنفة، وهو أنّهم لا يطلبون الإمهال للرجوع نحو الحق والتعويض عما فات، بل يطلبون الإمهال لمزيد التمتع من النعم الزائلة في هذه الدنيا، إلاّ أن هذا التمتع لا يغني عنهم شيئاً، ولا بد أن يرحلوا - إن عاجلا وإن آجلا - من هذه الدار الفانية إلى تلك الدار الباقية، وأن يواجهوا أعمالهم هناك...

وهنا يثار سؤالٌ - وهو أنّه مع الإلتفات إلى أن الله بمستقبل كل قوم وجماعة، فما الحاجة إلى الإمهال؟

ثمّ أن الاُمم السالفة كذبت أنبياءها واحداً بعد الآخر، وبمقتضى قوله تعالى: (وما كان أكثرهم مؤمنين) الوارد في نهاية تلك القصص إن أكثرهم لم يؤمنوا، فعلام يأتي الأنبياء منذرين ومبشرين؟!

فالقرآن يجيب على هذا السؤال بأن ذلك سنة الله (وما أهلكنا من قرية إلاّ لها منذرون) فنرسل الأنبياء لهم لإتمام الحجّة وتقديم النصح والموعظة ليتذكروا ويستيقظوا من غفلتهم (ذكرى).(1)

ولو كنا نأخذهم بدون إتمام الحجة، وذلك بإرسال المنذرين والمبشرين - من قِبَلِ الله - لكان ظلماً منّا (وما كنّا ظالمين).

فمن الظلم أن نُهلك غير الظالمين، أو نهلك الظالمين دون إتمام الحجّة عليهم... وما ورد في هذه الآيات هو في الحقيقة بيان للقاعدة العقلية المعروفة بـ "قاعدة قبح العقاب بلا بيان" وشبيه لهذه الآية ما جاء في الآية (15) من سورة الإسراء: (وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا).

أجل.. إنّ العقاب بدون البيان الكافي قبيح، كما أنه ظلم، والله العادل الحكيم محال أن يفعل ذلك أبداً، وهذا ما يعبر عنه في علم الأصول بـ (أصل البراءة) ومعناه أن كل حكم لم يقم عليه الدليل، فإنّه يُنفى بواسطة هذا الأصل "لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية 57 من سورة الإسراء"..

ثمّ يرد القرآن على إحدى الذرائع أو التُهم الباطلة من قِبَلِ اعداء القرآن وهي أن النّبي مرتبط ببعض الجن، وهو يعلمه هذه الآيات، والحال أن القرآن يؤكّد أن هذه الآيات هي من "تنزيل ربّ العالمين".

فيضيف هنا قائلا: (وما تنزلت به الشياطين).

ثمّ يبيّن جواب هذه التهمة الواهية التي اختلقها الأعداء فيقول: (وما ينبغي لهم).

أي أن محتوى هذا الكتاب العظيم الذي يدعو الى الحق والطهارة والعدل والتقوى، ونفي كل أنواع الشرك، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا شباهة له بأفكار الشياطين وما يلقونه. فالشياطين لا يصدر منهم إلاّ الشر والفساد، وهذا كتاب خير وصلاح، فالدقّة في محتواه تكشف عن أصالته.

ثمّ إن الشياطين ليست لهم القدرة على ذلك (وما يستطيعون).

فإذا كانت لهم القدرة فينبغي على سائر من كان في محيط نزول القرآن كالكهنة المرتبطين بالشياطين (أو على الأقل كان المشركون يُدّعون بأنّهم مرتبطون بالشياطين) أن يأتوا بمثل هذا القرآن، مع أنّهم عجزوا عن الإتيان بمثله، وهذا العجز أثبت أن القرآن فوق قدرتهم ومستوى بلاغتهم وأفكارهم!...

ومضافاً إلى كل ذلك، فإن الكهنة أنفسهم كانوا يعترفون أنّهم بعد ولادة النّبي(ص) انقطعت علاقتهم بالشياطين الذين كانوا يأتونهم بأخبار السماء و (إنهم عن السمع لمعزوُلون).

ويستفاد من سائر آيات القرآن أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع من الملائكة، فينقلون ما يدور بين الملائكة من مطالب إلى أوليائهم، إلاّ أنّه بظهور نبيّ الإسلام(ص) وولادته انقطع استراق السمع تماماً، وزال الإرتباط الخبري بين الشياطين وأوليائهم...

وهذا الأمر كان يعلم به المشركون أنفسهم، وعلى فرض أن المشركين كانوا لا يعلمون، فإن القرآن أخبرهم بذلك.(2)

ولذا فقد جعله القرآن دليلا في الآيات الأنفة لدحض ما يتقوله الأعداء...

وهكذا فقد أجاب القرآن على هذا الإِتهام من ثلاثة طرق:

1 - عدم التناسب بين محتوى القرآن وإلقاء الشياطين.

2 - عدم قدرة الشياطين على ذلك.

3 - منع الشياطين من إستراق السمع.


1- الجزء الرّابع من تفسير نور الثقلين، ص 165.

2- للمفسرين في محل (ذكرى) من الإعراب أربعة إحتمالات ... الأوّل: أنه مفعول لأجله والعامل "منذرون" والتّفسير المذكور آنفاً في المتن هو على هذا الأساس.

الثّاني: أنّه مفعول مطلق لكلمة "منذرون" لأنّ معناهما واحد أو هما متقاربان في المعنى.

الثّالث: أنّه حال من الضمير في منذرون.

الرّابع: أنّها خبر لمبتداء محذوف تقديره (هذه ذكرى).