الآيات 176 - 184

﴿كَذَّبَ أَصْحـبُ الئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176) إذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(177) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (180) أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونوُاْ مِنَ الُْمخْسِرِينَ(181) وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182) وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ(183) وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاَْوَّلِينَ(184)﴾

التّفسير

شعيب وأصحابُ الأيكة:

هذه هى القصّة السابعة، والحلقة الأخيرة من قصص الأنبياء الواردة في هذه السورة... وهي قصة "شعيب"(ع) وقومه المعاندين.

كان هذا النّبي يقطن في "مدين"، "وهي مدينة تقع جنوب الشامات".

و "أيكة" على وزن (ليلة) "قرية أو أرض معمورة على مقربة من مدين".

والآية (79) من سورة الحجر تدل على أن "أيكة" كانت تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام.

تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين).

إنّهم لم يكذبوا نبيّهم شعيباً فحسب، بل كذبوا جميع الأنبياء، لأنّ دعوتهم واحدة... أو لأنّهم لم يصدقوا ويقبلوا بأيّ رسالة سماوية أبداً...

والأيكة معناها في الأصل محل مكتظ بالأشجار، وهي هنا إشارة إلى منطقة تقع على مقربة من "مدين"، سمّيت بذلك لأن فيها أشجاراً كثيرة وماءً وظلالا!... والقرائن تشير إلى أنّهم كانوا منعّمين مترفين ذوي حياة مرفهة وثروة كثيرة، وربّما كانوا لهذه الأُمور غرقى الغرور والغفلة!...

ثمّ يتحدث القرآن إجمالا عن شعيب(ع) وعنهم فيقول: (إذ قال لهم شعيب ألا تتقون).

وفي الحقيقة فإن دعوة شعيب(ع) انطلقت من النقطة التي ابتدأها سائر الأنبياء، وهي التقوى ومخافة الله التي تعدُّ أساس المناهج الإصلاحية والتغييرات الأخلاقية والإِجتماعية جمعاء...

والجدير بالذكر أن التعبير "أخوهم" الوارد في قصص صالح وهود ونوح ولوط(ع) ، لم يُلاحظ هنا. ولعل منشأ ذلك يعود إلى أن "شعيباً" كان من أهل مدين أصلا - وتربطه باهلها روابط نسبية، وليس كذلك مع اصحاب الأيكة... ولذلك نرى في سورة هود حين يشير القرآن إلى إرسال "شعيب" إلى قومه من أهل مدين يقول: (وإلى مدين أخاهم شعيباً) إلاّ أن الآية محل البحث لما كانت تتحدث عن أصحاب الأيكة، وشعيب(ع) لا تربطه رابطة نسبية بهم لم تذكر التعبير "أخاهم"...

ثمّ أضاف شعيب قائلا: (إنّي لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) فطاعتكم لي طاعة لله.

واعلموا أنّي أبتغي ثوابه ووجهه (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).

وهذه التعابير هي التعابير ذاتها التي دعا بها سائر الأنبياء أُمَمهم، فهي متحدة المآل ومدروسة، إذ تدعو إلى التقوى، وتؤكّد على سابقة أمانة النّبي بين قومه، كما أنّها تؤكّد على أن الهدف من الدعوة إلى الله معنوي فحسب، وليس ورائها هدف مادي، ولا يطمع أيّ من الأنبياء بما في يد الآخرين، ليكون مثاراً للشكوك وذريعةً للمتذرعين!

و "شعيب" كسائر الأنبياء الذين ورد جانب من تأريخ حياتهم في هذه السورة، فهو يدعو قومه بعد الدعوة العامّة للتقوى وطاعة الله، إلى إصلاح انحرافاتهم الأخلاقية والإجتماعية وينتقدهم على هذه الإنحرافات، وحيث أن أهم انحراف عند قومه كان الإضطراب الإقتصادي، والإستثمار والظلم الفاحش في الأثمان والسلع، والتطفيف في الكيل، لذلك فقد اهتم بهذه المسائل أكثر من غيرها، وقال لهم: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس(1) المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).

وفي هذه الآيات الأخيرة الثلاث يأمر شعيب هؤلاء القوم الضالين بخمسة أوامر في عبارات موجزة، ويتصور بعض المفسّرين أن هذه العبارات بعضها يؤكّد بعضاً، إلاّ أن التدقيق فيها يدلّ على أن هذه الأوامر الخمسة في الواقع تشير إلى خمسة مطالب أساسية ومختلفة، أو بتعبير آخر: هي أربعة أوامر ونتيجة كليّة!...

ولكي يتّضح هذه الإختلاف أو التفاوت، فإنه يلزم الإلتفات إلى هذه الحقيقة... وهي أن قوم شعيب (أهل مدين وأصحاب الأيكة) كانوا مستقرين في منطقة حساسة تجارية، وهي على طريق القوافل القادمة من الحجاز إلى الشام، أو العائدة من الشام إلى الحجاز، ومن مناطق أُخَر.

ونحن نعرف أن هذه القوافل تحتاج في اثناء الطريق إلى أُمور كثيرة... وطالما يسيءُ أهل المنطقة الإستفادة من هذه الحالة، فهم يستغلونها فيشترون بضائعهم بأبخس ثمن... ويبيعون عليهم المستلزمات بأعلى ثمن "وينبغي الإلتفات إلى أن أكثر المعاملات في ذلك الحين كانت قائمة على أساس المعاوضة سلعة بسلعة"...

وربما تذرعوا عند شراء البضاعة بأن فيها عدة عيوب، وإذا أرادوا أن يبيعوا عليهم عرّفوها بأحسن التعاريف، وعندما يزنون لأنفسهم يستوفون الوزن، وإذا كالوا الآخرين أو وزنوا لهم لا يهتمون بالميزان الصحيح والإستيفاء السليم، وحيث أن الطرف المقابل محتاج إلى هذه الأُمور على كل حال ومضطر إليها، فلا بد له من أن يقبلها ويسكت عليها!...

وبغض النظر عن القوافل التي تمرّ عليهم، فإنّ أهل المنطقة نفسها المضطرين إلى التعامل ببضائعهم مع هؤلاء المطففين، وليسوا بأحس حظاً من أصحاب القوافل أيضاً.

فقيمة المتاع سواءً كان الجنس يراد بيعهُ أو شراؤة تتعين بحسب رغبة الكسبة هؤلاء. والوزن والمكيال على كل حال بأيديهم، فهذا المسكين المستضعف عليه أن يستسلم لهم كالميت بيد غاسله!

ومع ملاحظة ما ذكرناه آنفاً، نعود الآن إلى تعابير الآيات المختلفة... فتارة يقول شعيب لقومه: أوفوا الكيل، وفي مكان آخر يقول: زنوا بالقسطاس المستقيم، ونعرف أن تقويم الأجناس والبضائع يتم عن طريق الكيل أو الوزن، فهو يشير الى كل واحد منهما ويهتم به اهتماماً خاصاً... لمزيد التأكيد على أن لا يبخسوا الناس أشياءهم...

ثمّ إنّ التطفيف أن بخس الناس له طرق شتى، فتارةً يكون الميزان صحيحاً إلاّ صاحبه لا يؤدي حقه، وتارة يكون اللعب أو العيب في الميزان... فهو يغش صاحبه بما فيه من عيب، وقد جاءت الإشارات في الآيات الآنفة إلى جميع هذه الأُمور.

وبعد اتضاح هذين التعبيرين (وأوفوا الكيل ... وزنوا القسطاس) نأتي الى معنى (لا تبخسوا) المأخوذة من "البخس"، وهو في الأصل النقص ظلماً من حقوق الناس... وقد يأتي أحياناً بمعنى الغش أو التلاعب المنتهي إلى تضييع حقوق الآخرين... فبناءً على ما تقدم، فإن الجملة الآنفة (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) لها معنى واسع يشمل جميع أنواع الغش والتزوير والتضليل، والتلاعب في المعاملات، وغمط حقوق الآخرين!

وأمّا جملة (ولا تكونوا من المخسرين) فمع ملاحظة أن "المخسر" هو من يوقع الآخر أو الشيء في الخسران... فمعناه واسع أيضاً، إذ يشمل بالإضافة إلى البخس والتطفيف كل ما من شأنه أن يكون سبباً للخسارة وإيذاء الطرف الآخر في المعاملة!

وهكذا فإنّ جميع ما ذُكر من الإستغلال وسوء الإِستفادة والظلم، والمخالفة في المعاملة والغش والإخسار، سواءاً كان ذلك في الكمية أو الكيفية، كله داخل في التعليمات آنفة الذكر... وحيث أن الإضطراب الإقتصادي، أو الأزمة الإقتصادية، أساس لا ضطراب المجتمع، فإنّ شعيباً يختتم هذه التعليمات بعنوان جامع فيقول: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين). فتجرّوا المجتمع الى هاوية الفساد والانحطاط، فعليكم أن تضعوا حدّاً لأي نوع من الإستثمار والعدوان وتضييع حقوق الآخرين.

وهذه التعليمات ليست بناءة للمجتمع الثري الظالم في عصر شعيب فحسب، بل هي بناءة ونافعة لكل عصر وزمان، وداعية إلى العدالة الإقتصادية!...

ثمّ إن "شعيباً" في آخر تعليماته - في هذا القسم - يدعوهم مرد اُخرى إلى تقوى الله فيقول: (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين).

فلستم أول قوم أو جماعة خُلقوا على هذه الأرض، فآباؤكم والأمم الاُخرى جاءوا وذهبوا، فلا تنسوا ماضيهم وما تقبلون عليه...

(الجبلة" مأخوذة من (الجبل) وهو معروف "ما ارتفع من الأرض كثيراً" ويسمى الطود أحياناً... فالجبلة تطلق على الجماعة الكثيرة التي هي كالجبل في العظمة...

قال بعضهم: الجبلة مقدار عددها عشرة آلاف!

كما تطلق الجبلة على الطبيعة والفطرة الإنسانية، لأنّها لا تتغير، كما أن الجبل لا يتغيّر عادةً...

والتعبير المتقدم لعله إشارة إلى أن شعيباً يقول: إنّما أدعوكم إلى ترك الظلم والفساد، وأداء حقوق الناس ورعاية العدل، لأنّ ذلك موجود في داخل الفطرة الإنسانية منذ الخلق الأوّل، وأنا جئتكم لإحياء هذه الفطرة...

إلاّ أنّه - وللأسف - لم تؤثر كلمات هذا النّبي المشفق، فأجابوه بمنطق "مُرّ وفظ" سنقرؤه في الآيات المقبلة...


1- ذكرنا آنفاً أن مصطلح ألف ألف هو التعبير العربي الصحيح وأن كلمة مليون ليست عربيّة بل هى غربية فتأمل.