الآيات 160 - 166
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوط الْمُرْسَلِينَ(160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(161) إِنِّى لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ(162) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـلَمِينَ(165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)﴾
التّفسير
السفلة المعتدون:
سادس نبيّ - ورد جانبٌ من حياته وحياة قومه المنحرفين في هذه السورة - هو "لوط"(ع) ، ومع أنَّه كان يعيش في عصر إبراهيم الخليل، إلاّ أنّ قصته لم تأت بعد قصّة إبراهيم(ع) ، لأن القرآن لم يكن كتاباً تاريخياً ليبيّن الحوادث بترتيب وقوعها... بل يلفت النظر إلى جوانبه التربوية البناءة، والتي تقتضي تناسباً آخر... وقصّة لوط وما جرى لقومه تنسجم في حياة الأنبياء الآخرين الذين ورد ذكرهم في ما بعد...
يقول القرآن أوّلا في هذا الصدد: (كذبت قوم لوط المرسلين).
ورود "المرسلين" بصيغة الجمع، إمّا لأنّ دعوة الأنبياء(ع) واحدة، فتكذيب الواحد منهم تكذيب للجميع، أو أن قوم لوط لم يؤمنوا بأيّ نبي قبل لوط واقعاً وحقيقة...
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى دعوة لوط التي تنسجم مع دعوة الأنبياء الآخرين الماضين، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون).
ولحن كلماته وقلبه المتحرق لهم، العميق في تودّه إليهم، يدل على أنّه بمثابة "الأخ" لهم.
ثمّ أضاف لوط قائلا: (إنّي لكم رسول أمين) فلم تعرفوا عنّي خيانة حتى الآن... وسأرعى الأمانة في إيصال رسالة الله إليكم أبداً... (فاتقوا الله وأطيعون) فأنا زعيمكم إلى السعادة والنجاة.
ولا تتصوروا أنّ هذه الدعوة وسيلة اتخذها للحياة والعيش، وأنّ وراءها هدفاً مادّياً، كلاّ: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين).
ثمّ يتناول بالنقد أعمالهم القبيحة، وقسماً من انحرافاتهم الأخلاقية... وحيث أنّ أهم نقطة في انحرافاتهم... هي مسألة الإِنحراف الجنسي، لذلك فإنّه ركّز عليها وقال: (أتأتون الذكران من العالمين). فتختارون الذكور من بين الناس لاشباع شهواتكم!!
أي، إنّكم على الرغم ممّا خلق الله لكم من الجنس المخالف "النساء" حيث تستطيعون أن تعيشوا معهن بالزواج المشروع عيشاً طاهراً هادئاً، إلاّ أنّكم تركتم نعمة الله هذه وراءكم، ولوّثتم أنفسكم بمثل هذا العمل القبيح المخزي...
كما ويحتمل في تفسير هذه الآية أن "من العالمين" جاء قيداً لقوم لوط أنفسهم، أي إنّكم من دون العالمين وحدكم المنحرفون بهذا الإنحراف والمبتلون به... كما أن هذا الإحتمال ينسجم مع بعض التواريخ إذ يقال أن أوّل أمّة ارتكبت
الإِنحراف الجنسي "اللواط" بشكل واسع هي قوم لوط،(1) إلاّ أن التّفسير الأوّل مع الآية التالية - أكثر إنسجاماً.
ثمّ أضاف قائلا: (وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون).
فالحاجة والغريزة الطبيعية، سواءً كانت روحية أم جسمية لم تجرّكم إلى هذا العمل الإنحرافي الشنيع ابداً، وإنّما جرّكم الطغيان والتجاوز، فتلوثتم وخزيتم به...
إن ما تقومون به يشبه من يترك الثمر الطيب والنافع والسالم، ويمضي نحو الغذاء المسموم الملوّث المميت... فهذا الفعل ليس حاجة طبيعية... بل هو التجاوز والطغيان!
بحثان
1 - الانحراف الجنسي انحراف مخجل
أشار القرآن في سور متعددة منه - كالأعراف وهود والحِجر والأنبياء والنمل والعنكبوت، إلى ما كان عليه قوم لوط من الوزر الشنيع... إلاّ أن تعابيره - في السور المذكورة آنفاً - يختلف بعضها عن بعض... وفي الحقيقة إن كل تعبير من هذه التعابير يشير إلى بُعد من أبعاد عملهم الشنيع: ففي "الأعراف" نقرأ مخاطبة لوط إيّاهم (بل أنتم قوم مسرفون).(2)
وفي الآية (74) سورة الأنبياء يتحدث القرآن عن لوط فيقول: (ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث انهم كانوا قوم سوء فاسقين).
أمّا في الآية - محل البحث - فقد قرأنا مخاطبة لوط إياهم بقوله: (بل أنتم قوم عادون).
وجاء في الآية (55) من سورة النمل قوله لهم: (بل أنتم قوم تجهلون) "الآية 55".
كما جاء في الآية (29) من سورة العنكبوت على لسان لوط مخاطباً إيّاهم (إنّكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل).(3)
وهكذا فقد ذُكر هذا العمل القبيح بعناوين "إسراف"، "خبيث"، "فسق"، "تجاوز"، "جهل"، و"قطع السبيل".
"الإسراف" من جهة أنّهم نسوا نظام الخلق في هذا الأمر، وتجاوزوا عن الحد، و"التعديّ" ذكر أيضاً لهذا السبب.
و"الخبيث" هو ما ينفر منه طبع الإنسان السليم، وأيّ عمل أقبح من هذا العمل الذي يُنفَرُ منه؟!
"الفسق" معناه الخروج عن الطاعة - طاعة الله - والتعري عن الشخصيّة الإنسانية، وهو من لوازم هذا العمل حتماً.
و"الجهل" لعدم معرفتهم بعواقب هذا الفعل الوخيمة على الفرد والمجتمع!...
وأخيراً فإن "قطع السبيل" هو النتيجة السيئة لهذا الفعل، لأنّه سيؤدي إلى انقطاع النسل عند اتساع هذا الفعل، لأنّ العلاقة نحو الجنس المشابه ستحل محل العلاقة نحو الجنس المخالف بالتدريج (كما هي الحال بالنسبة للواط والسحاق).
2 - العواقب الوخيمة للإنحراف الجنسي.
بالرغم من بحثنا لهذا الموضوع في ذيل الآيات 81 - 83 بحثاً مفصّلا في أضرار هذا العمل القبيح، إلاّ أنه - نظراً لأهميته - نرى هنا من اللازم أن نذكر مطالب أُخَر مضافاً إلى ما سبق!
في الحديث عن النبيّ (محمّد) (ص) أنه قال: "لا يجد ريح الجنّة زنوق وهو المخنث".(4)
وفي حديث آخر عن الإمام علي(ع) أنه قال: "اللواط هو الكفر".(5)
وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا في فلسفة تحريم اللواط والسحاق أنه قال: "علة تحريم الذكران للذكران، والإِناث للإِناث، لما رُكب في الإِناث وماطبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران الذكران، والإِناث للإِناث من انقطاع النسل، وفساد التدبير، وخراب الدنيا".(6)
وهذه المسألة قبيحة جدّاً في نظر الإِسلام بحيث جعل - في أبواب الحدود - حدّة القتل دون شك... حتى الذين يقومون بعمل أدنى من اللواط والسحاق جعل لهم عقاباً صارماً...
ففي حديث عن النّبي(ص) أنه قال: "من قبل غلاماً من شهوة، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".(7)
وعقوبة من يفعل مثل هذا الفعل تتراوح من ثلاثين سوطاً إلى تسعة وتسعين سوطاً...
وعلى كل حال، فلا شك أن الإنحراف الجنسي من أخطر الإنحرافات الاجتماعية... لأنّه يلقي بظله المشؤوم على جميع المسائل الأخلاقية، ويجر الإنسان إلى الإنحراف العاطفي.
"وكان لنا بحث مفصل في هذا الصدد في ذيل الآية 81 من سورة هود".
1- تقول الروايات إن الذي قتل ناقة صالح كان واحداً لا غير... إلاّ أن القرآن يعبر عن هذا الفعل بصيغة الجمع (فعقروها). وهذا التعبير لأن الآخرين كانوا راضين بعمله ويضمون أصواتهم إلى صوته، ويعتقدون بمعتقده... وتنفتح نافذة من هنا على أصل اسلامي، وهو أنّ العلائق الفكرية والمذهبيّة تجعل المنتمين إليها في صف واحد، وتكون عاقبتهم واحدة. لمزيد الإيضاح يراجع الآية (65) من سورة هود...
2- في شأن انحراف هؤلاء القوم، يذكر التأريخ قصة يمكن مراجعتها في تفسير الآية (81) من سورة هود...
3- سورة الأعراف، الآية 81.
4- قيل أن المراد من (تقطعون السبيل) أي تقطعون سبيل الفطرة وتداوم النسل، وفسّره آخرون بأنّ المراد هو أن قوم لوط كانوا قطّاع طرق وسرّاقاً!...
5- بحار الانوار، الطبعة الجديدة، ج 79، ص 67.
6- المصدر السابق.
7- المصدر السابق، ص 64.