الآيات 153 - 159

﴿قَالواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(153) مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأتِ بِآيَة إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَّعْلُوم(155) وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْم عَظِيم(156) فَعَقَرُوهَا فأَصْبَحُواْ نَـدِمِينَ(157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)﴾

التّفسير

عناد قوم صالح ولجاجتهم: لقد استمعتم إلى منطق صالح المتين والمحب للخير، مع قومه المضلين - في الآيات المتقدمة - والآن لنستمع إلى جواب قومه في هذه الآيات.

إنهم واجهوه بكلام خشن و (قالوا إنّما أنت من المسحّرين) فلذلك فقدت عقلك وتتكلم بكلمات غير موزونة ولا معقولة.

ثمّ بعد هذا كله (ما أنت إلاّ بشر مثلنا) وكل عاقل لا يبيح لنفسه أن يطيع انساناً مثله (فأت بآية إن كنت من الصادقين) لكي نؤمن بك ونتبعك.

كلمة (المسحّر) مشتقّة من (السحر) ومعناها المسحور، أي المصاب بالسحر، إذ كانوا يعتقدون أن السحرة كانوا عن طريق السحر يعطلون عمل العقل، وهذا القول لم يتّهم به النبيّ صالحاً فحسب، بل اتهم به كثير من الأنبياء، حتى أن المشركين اتّهموا نبيَّنا محمّداً(ص) به فقالوا: (إن تتبعون إلاّ رجلا مسحوراً) (1). أجَلْ، إنّهم كانوا يرون معيار العقل أن يكون الإنسان متوفقاً مع البيئة والمحيط، فيأكل الخبز - مثلا - بسعر يومه، ويطبّق نفسه على جميع المفاسد... فلو أن رجلا مصلحاً إلهيّاً دعا الناس للقيام والنهوض بوجه العقائد الفاسدة وإصلاحها، عَدُّوهُ - بحسب منطقهم - مجنوناً "مسحّراً".

وهناك احتمالات أُخر في معنى "المسحّرين"، صرفنا النظر عنها لعدم مناسبتها...

وعلى كل حال فإنّ هؤلاء المعاندين من قوم صالح، طلبوا منه معجزةً لا من أجل معرفة الحق، بل تذرعاً بالحُجة الواهية، وعلى نبيّهم أن يُتم الحجة عليهم، فاستجاب لهم - وبأمر الله - قال: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم).

و "الناقة" معروفة عند العرب، وهي أنثى الجمَلِ، والقرآن لم يذكر خصائص هذه الناقة التي كان لها حالة إعجازية، إلاّ أنه ذكرها بنحو الإجمال... لكننا نعرف أنّها لم تكن ناقة كسائر النياق الطبيعية، فكما يقول جماعة من المفسّرين: كانت هذه الناقة بحالة من الإعجاز بحيث خرجت من قلب الجبل. ومن خصائصها أنّها كانت تشرب ماء الحيّ في يوم، واليوم الآخر لأهل الحي "أو القرية" وهكذا دواليك... كما أشارت الآية آنفة الذكر إلى هذا المعنى، ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في الآية (28) من سورة القمر أيضاً.

وقد ذكر المفسّرون لها خصائص أُخر(2).

وعلى كل حال، كان على صالح(ع) أن يُعلمَهُم أن هذه الناقة ناقة عجيبة وخارقة للعادة، وهي آية من آيات عظمة الله المطلقة فعليهم أن يَدَعوها على حالها، وقال: (ولا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم)...

وبديهي أن المترفين قوم صالح المعاندين كانوا يعلمون أن يقظة الناس ستؤدي إلى الإضرار بمنافعهم الشخصية فتآمروا على نحر الناقة: (فعقروها فأصبحوا نادمين) (3) لأنّهم رأوا انفسهم قاب قوسين من العذاب الالهي.

ولما تجاوز طغيانهم الحدّ، وأثبتوا بأعمالهم أنّهم غير مستعدين لقبول الحق، اقتضت إرادة الله ومشيئته أن يطهر الأرض من وجودهم الملوّث (فأخذهم العذاب).

وكما نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف، والآية (67) من سورة هود، ما جاء عن عذاب الله لهم إجمالا... أن الأرض زُلزلت من تحتهم ليلا، فانتبهوا من نومهم وجثوا على الركب فما أمهلهم العذاب وأخذتهم الرجفة والصيحة، فاهتزت حيطانهم وهوت عليهم فأماتتهم جاثمين على حالهم ففارقوا الدنيا بحال موحشة رهيبة!...

ويقول القرآن في ختام هذه الحادثة ما قاله في ختام حوادث قوم هود وقوم صالح وقوم نوح وقوم إبراهيم(ع) ، فيعبّر تعبيراً بليغاً موجزاً يحمل بين ثناياه عاقبة أولئك الظالمين: إن في قصة قوم صالح، وفي صبره وتحمله واستقامته ومنطقه القويم من جهة، وعناد قومه وغرورهم وانكارهم للمعجزة البيّنة، والمصير الأسود الذي آلو إليه دروس وعبر: (إنّ في ذلك لآية وماكان أكثرهم مؤمنين).

أجلْ، ليس لأحد أن يغلب ربّه; فما فوق قوته من قوّة!! وهذه القوّة وهذه القدرة العظيمة لا تمنع أن يرحم أولياءه، بل أعداءه أيضاً: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم) (4)


1- راجع تفسير الميزان، الجزء 15، الصفحة 333 ـ 334.

2- سورة الفرقان، الآية 8.

3- لمزيد الإيضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الآية (61) من سورة هود...

4- كلمة (عقروها) مأخوذة من مادة (عُقر) على زنة (قُفل) ومعناها في الأصل أساس الشيء وجذره، وقد تأتي بمعنى حز الرأس، وتأتي بمعنى قطع الأرجل من الحيوان، وما إلى ذلك.