الآيات 116 - 122

﴿قَالوُاْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَـنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ(116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ(117) فافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن الْمؤْمِنِينَ(118) فَأَنجَيْنَـهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ المَشْحُونِ(119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)﴾

التّفسير

نجاةُ نوح وغرقُ المشركين:

كان ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين في مواجهة نبيّهم نوح(ع) ، هو منهج المستكبرين على امتداد التاريخ وهو الإعتماد على القوّة والتهديد بالموت والفناء: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين).

والتعبير بـ "من المرجومين" يدلُ على أنّ الرجمَ بالحجارة بينهم كان جارياً في شأن المخالفين... وفي الحقيقة إنّهم يقولون لنوح: إذا قررت أن تواصل دعوتك للتوحيد... والإستمرار على عقيدتك ودينك، فستنال ما يناله المخالفون - عامّة - وهو الرجم بالحجارة، الذي يعد واحداً من أسوأ أنواع القتل.(1)

ولما رأى نوح أن دعوته المستمرة الطويلة بما فيها من منطق بيّن... وبما يقترن بها من إصطبار، لم تؤثر إلاّ في جماعة قلة آمنوا به... شكا إلى ربّه أخيراً، وضمن بيان حاله، سأل ربه أن ينجيّه من قبضة الظالمين، وأن يُبعده عنهم... إذ (قال ربّ إن قومي كذبون).

وصحيح أن الله مطّلع على كل شيء، إلاّ أنه لبيان الشكوى وتمهيداً للسؤال التالي، يذكر نوح مثل هذا الكلام.

وممّا يلفت النظر أنّ نوحاً لم يشتكِ من المصائب التي أُبتلي بها، بل اشتكى من تكذيب قومه إيّاه فحسب، إذ لم يصدقوه ولم يقبلوا رسالته الالهية لهدايتهم...

ثمّ يلتفت إلى ربّه فيقول: والآن حيث لم يبق طريق لهداية هؤلاء القوم فاقض بيننا وافصل بيني وبينهم: (فافتح بيني وبينهم فتحاً).

"الفتح" معناه واضح، وهو ما يقابل الغلق ويضاده، وله استعمالان... فتارة يستعمل في القضايا المادية كفتح الباب مثلا، وتارة يستعمل في القضايا المعنوية كفتح الهمّ ورفع الغم، وكفتح المستغلق من العلوم، وفتح القضية، اي بيان الحكم حسم النزاع!

ثمّ يضيف فيقول: (ونجّني ومن معي من المؤمنين).

وهنا يعبر القرآن عن إدراك رحمة الله نوحاً، وإهلاك المكذبين بعاقبة وخيمة مفجعة، إذ يقول: (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) اي المليء بالناس وانواع الحيوانات (ثمّ أغرقنا بعدُ الباقين)...

"المشحون" مأخوذ من مادة (شحن) على وزن (صحن) ومعناه الملءُ، وقد يستعمل بمعنى التجهيز... و"الشحناء" تطلق على العداوة التي تستوعب جميع جوانب الإِنسان، والمراد من "المشحون" هنا هو أنّ ذلك الفلك أي السفينة كان مملوءاً من البشر وجميع الوسائل... ولم يكن فيه أي نقص... إي أن الله بعدما جهز السفينة وأعدّها للحركة، أرسل الطوفان لئلا يُبتلى نوح وجميع من في الفلك بأي نوع من أنواع الأذى... وهذا بنفسه إحدى نعم الله عليهم!

وفي ختام هذه القصة القصيرة، يقول القرآن ما قاله في ختام قصة موسى وإبراهيم(ع) ، فيكرر قوله: (إن في ذلك لآية) أي في ما جرى لنوح(ع) ودعوته المستمرة وصبره ونجاته وغرق مخالفيه (وما كان أكثرهم مؤمنين).

ولهذا فلا تحزن يا رسول الله من إعراض المشركين وعنادهم، واستقم كما أُمرت... فإنّ عاقبتك وعاقبة أصحابك عاقبة نوح وأصحابه، وعاقبة الضالين من قومك كعاقبة الضالين من قوم نوح.

(و) اعلم (إن ربّك لهو العزيز الرحيم).

فرحمته تقتضي أن يمهلهم ويتمّ عليهم الحجة بإعطاء الفرصة الكافية، وعزته تستلزم أن ينصرك عليهم، وتكون عاقبة أمرهم خُسْرَاً!...


1- تأنيث لفظ (كذبت) لأن (قوم) في معنى الجماعة، والجماعة فيها تأنيث لفظي... وقال بعضهم: إن كلمة (قوم) بذاتها مؤنثة، لأنّهم قالوا في تصغيرها "قويمة" نقل الوجه الأوّل الطبرسي في مجمع البيان، ونقل الوجه الثّاني الفخر الرازي في تفسيره... إلاّ أن "الآلوسى" قال في روح المعاني: إن لفظ "قوم" يستعمل في المذكر والمؤنث على السواء...