الآيات 105 - 115
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوح الْمُرْسَلِينَ(105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخوُهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ(106) إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَـلَمِينَ (109) فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110) قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ(111) قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَو تَشْعُرُونَ(113) وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114) إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(115)﴾
التّفسير
يا نوحُ، لِمَ يحفُّ بك الأرذلون؟!
يتحدّث القرآن الكريم بعد الإنتهاء ممّا جرى لإبراهيم وقومه الضّالين، عن قوم نوح(ع) حديثاً للعبرة والإتعاظ... فيذكر عنادهم وشدّتهم في موقفهم من نوح(ع) وعدم حيائهم وعاقبتهم الأليمة ضمن عدّة آيات... فيقول أوّلا: (كذّبت قوم نوح المرسلين).(1)
وواضح أن قوم نوح إنّما كذبوا نوحاً فحسب... ولكنْ لمّا كانت دعوة المرسلين واحدة من حيث الأصول، فقد عدّ تكذيب نوح تكذيباً للمرسلين جميعاً... ولذا قال القرآن (كذبت قوم نوح المرسلين).
كما ويحتمل أنّ قوم نوح أساساً كانوا منكرين لجميع الأديان والمذاهب، سواءً قبل ظهور نوح أو بعده...
ثمّ يشير القرآن الكريم إلى هذا الجانب من حياة نوح(ع) ، الذي سبق أن أشار إليه في كلامه حول إبراهيم وموسى(ع) ، فيقول: (إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون)...
والتعبير بكلمة "أخ" تعبير يبيّن منتهى المحبّة والعلاقة الحميمة على أساس المساواة... أي أن نوحاً دون أن يطلب التفوق والإستعلاء عليهم، كان يدعوهم إلى تقوى الله في منتهى الصفاء.
والتعبير بالأُخوة لم يَردْ في شأن نوح في القرآن فحسب، بل جاء في شأن كثير من الأنبياء، كهود وصالح ولوط، وهو يلهم جميع القادة والأدلاء على طريق الحق أن يراعوا في دعواتهم منتهى المحبة المقرونة بالإجتناب عن طلب التفوق لجذب النفوس نحو مذهب الحق، ولا يستثقله الناس!...
وبعد دعوة نوح قومه إلى التقوى التي هي أساس كل أنواع الهداية والنجاة، يضيف القرآن فيقول على لسان نوح وهو يخاطب قومه: (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون) فإن إطاعتي من إطاعة الله سبحانه...
وهذا التعبير يدلّ على أن نوحاً(ع) كانت له صفة ممتدة من الأمانة بين قومه،
وكانوا يعرفونه بهذه الصفة السامية، فهو يقول لهم: (إنّي لكم رسول أمين) ولهذا فإنّي أمين أيضاً في أداء الرسالة الالهية، ولن تجدوا خيانةً منّي أبداً...
وتقديم التقوى على الإِطاعة، لأنه مالم يكن هناك إيمان واعتقاد بالله وخشية منه، فلن تتحقق الإطاعة لنبيّه...
ومرّة أُخرى يتمسك نوح(ع) بحقانية دعوته، ويأتي بدليل آخر يقطع به لسان المتذرعين بالحجج الواهية، فيقول: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين).
ومعلوم أن الدوافع الإلهية - عادةً - دليل على صدق مدعي النبوّة، في حين أن الدوافع المادّية تدل بوضوح على أن الهدف من ورائها هو طلب المنفعة، ولا سيما أن العرب في ذلك العصر كانوا يعرفون هذه المسألة في شأن الكهنة وأضرابهم...
ثمّ يذكر القرآن ذلك التعبير نفسه الذي جاء على لسان نوح، بعد التأكيد على رسالته وأمانته، إذ يقول: (فاتقوا الله وأطيعون)...
إلاّ أنّ المشركين الحمقى، حين رأوا سُبُلَ ما تذرّعوا به من الحجج الواهية موصدة، تمسكوا بهذه المسألة، فـ (قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون).
إن قيمة الزعيم ينبغي أن تعرف ممن حوله من الأتباع، وبعبارة أخرى "إن الولي يعرف من زوّاره - كما يقال" فحين نلاحظ قومك يا نوح، نجدهم حفنةً من الأراذل والفقراء والحفاة والكسبة الضعاف، قد داروا حولك، فكيف تتوقع أن يتبعك الاثرياء الأغنياء الشرفاء والوجهاء ويخضعوا لك؟!
وصحيح أنّهم كانوا صادقين ومصيبين في أنّ الزعيم يُعرف عن طريق أتباعه، إلاّ أن خطأهم الكبير هو عدم معرفتهم مفهوم الشخصية ومعيارها... إذ كانوا يرون معيار القِيَم في المال والثروة والألبسة والبيوت والمراكب الغالية والجميلة، وكانوا غافلين عن النقاء والصفاء والتقوى والطهارة وطلب الحق، والصفات العليا للإنسانية الموجودة في الطبقات الفقيرة والقلّة من الاشراف.
إن روح الطبقية كانت حاكمة على أفكارهم في أسوأ أشكالها، ولذلك كانوا يسمّون الفقراء الحفاة بالأراذل.
و "الأراذل" جمع (أرذل) كما أنّه جمع (للرذل) ومعناه الحقير... ولو كانوا يتحررون من قيود المجتمع الطبقي، لأدركوا جيداً أن إيمان هذه الطائفة نفسها دليل على حقانية دعوة النّبي وأصالتها!
إلاّ أنّ نوحاً(ع) جابههم وردّهم بتعبير متين، وجرّدهم من سلاحهم و (قال وما علمي بما كانوا يعملون).
فما مضى منهم مضى، والمهم هو أنّهم اليوم استجابوا لدعوة النّبي، وقالوا له: لبّيك، وتوجهوا لبناء شخصياتهم، ومكنوا الحقّ من أن ينفذ إلى قلوبهم!...
وإذا كانوا في ما مضى من الزمن قد عملوا صالحاً أو طالحاً، فلست مُحاسباً ولا مسؤولا عنهم آنئذ (إن حسابهم إلاّ على ربي لو تشعرون).
ويستفاد من هذا الكلام - ضمناً - أنّهم كانوا يريدون أن يتهموا هؤلاء الطائفة من المؤمنين، بالإضافة إلى خلوّ أيديهم، بسوء سابقتهم الأخلاقية والعملية، مع أن الفساد والإنحراف الخلقي عادةً في المجتمعات المرفهة أكثر من سواها بدرجات... فهم الذين تتوفر لديهم كل وسائل الفساد، وهم سكارى المقام والمال، وقلّ أن يكونوا من الصالحين.
إلاّ أن نوحاً(ع) - دون أن يصطدم بهم في مثل هذه الأُمور - يقول: ما علمي بهم وبما كانوا يعملون، فإذا كان الأمر كما تزعمون فإنّما حسابهم على ربي لو تشعرون!
وإنّما عليّ أن أبسط جناحي لجميع طلاّب الحق (وما أنا بطارد المؤمنين).
وهذه العبارة في الحقيقة جواب ضمني لطلب هؤلاء المثرين الأغنياء المغرورين، الذين كانوا يطلبون من نوح أن يطرد طائفة الفقراء من حوله، ليتقربوا منه ويكونوا من أتباعه بعد طرد أُولئك الفقراء...
ولكن المسؤولية الملقاة على عاتقي هي أن أنذر الناس فحسب (إن أنا إلاّ نذير مبين).
فمن سمع إنذاري وعاد إلى الصراط المستقيم بعد ضلاله، فهو من أتباعي كائناً من كان، وفي أي مستوى طبقي ومقام اجتماعي أو مادي!
وممّا ينبغي الإِلتفات إليه أن هذا الإِيراد لم يتعرّضْ له نوحٌ النّبي الذي هو أول الرسل من أولي العزم فحسب، بل ووُجهَ الى النّبي محمد(ص) وسائر الأنبياء به، فالأغنياء كانوا ينظرون بنظاراتهم الفكرية السوداء شخصيات هؤلاء الفقراء البيضاء، فيرونها سوداء، فيطلبون طردهم دائماً. ولم يقبلوا بربّ ولا نبي يتبعه مثل هؤلاء العباد الفقراء!...
إلاّ أنه ما أعذب وأحلى تعبير القرآن عنهم في سورة الكهف، إذ يقول: (واصبر نفسك مع الذين يدعونَ ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً).
وهذا الإيراد أو الإشكال يوردونه حتى على قادةِ الحق والأدلاّء على الهدى في كل عصر وزمان، وهو أن معظم أتباعكم المستضعفون! أو الحفاة الجائعون.
إنّهم يريدون أن يعيبوا بكلامهم هذا الرسالة والمذهب، مع أنّهم من حيث لا يشعرون، يمدحون ويطرون ذلك المذهب ويوقّعون على أصالته.
1- مجمع البيان ذيل الآية.