الآيات 88 - 104
﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ(88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِيم (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ(92) مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِروُنَ(93) فَكُبْكِبوُاْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُنَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أجْمَعُونَ(95) قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَل مُّبِين(97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ (98) وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الُْمجْرِمُونَ(99) فَمَا لَنَا مِن شَـفِعِينَ(100) وَلاَ صَدِيق حَمِيم(101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ(102) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(103) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)﴾
التّفسير
الخصام بين المشركين ومعبوداتهم:
أشير في آخر آية من البحث السابق إلى يوم القيامة ومسألة المعاد... أمّا في هذه الآيات فنلحظ تصوير يوم القيامة ببيان جامع، كما نلاحظ فيها أهم المتاع "في تلك السُوق"، وعاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين والضالين وجنود إبليس، ويدلُّ ظاهر الآيات أن هذا الوصف وهذا التصوير هو من كلام إبراهيم الخليل، وأنه ختام دعائه ربَّه، وهكذا يعتقد - أيضاً - أغلب المفسّرين... وإن كان هناك مَنْ يحتمل أنه هو من كلام الله، وأن الآيات محل البحث هي منه سبحانه جاءت مكملةً لكلام إبراهيم(ع) وموضحة له، إلاّ أن هذا الإحتمال يبدو ضعيفاً!...
وعلى كل حال، فأوّل ما تبدأ به هذه الآيات هو (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون).
وفي الحقيقة إنّ هاتين الدعامتين المهمتين في الحياة الدنيا "المال والبنون" ليس فيهما أدنى نفع لصاحبهما يوم القيامة، وكل ما كان دون هاتين الدعامتين رتبةً من الأُمور الدنيوية - من باب أولى - لا نفع فيه، ولا فائدة من ورائه!
وبديهي أنّ المراد من المال والبنين هنا ليس هو ما يكون - من المال والبنين - في مرضاة الله، بل المراد منه الإستناد إلى الأُمور الماديّة، فالمراد إذاً هو أن هذه الدعامات المادية لا تحلُّ معضلا في ذلك اليوم ... أمّا لو كان أىٌّ من البنين والمال في مرضاة الله فلن يكون ذلك مادّياً.. إذ يصطبغ بصيغة الله ويُعدّ من "الباقيات الصالحات"!...
ثمّ يضيف القرآن في ختام الآية، على سبيل الإِستثناء (إلاّ من أتى اللّهَ بقلب سليم).
وهكذا يتّضح أنّ أفضل ما ينجى يوم القيامة هو القلب السليم، وياله من تعبير رائع جامع، تعبير يتجسد فيه الإِيمان والنية الخالصة، كما يحتوي على كل ما يكون من عمل صالح! ولم لا يكون لمثل هذا القلب من ثمر سوى العمل الصالح؟!
وبتعبير آخر: كما أن قلب الإنسان وروحه يؤثران في أعماله، فإن أعماله لها أثر واسع في القلب أيضاً، سواءً كانت أعمالا رحمانية أم شيطانية!...
ثمّ يبيّن القرآن الجنّة والنار بالنحو التالي فيقول: (وأُزلفت الجنّة للمتقين(1) وبُرزت الجحيم للغاوين). أي الضالين
وهذا الأمر - في الحقيقة - قبل ورود كلٍّ من أهل الجنّة والنار إليهما! فكلّ طائفة ترى مكانها من قريب.. فيُسرّ المؤمنون ويستولي الرعب على الغاوين، وهذا أوّلَ جزائهما هناك!
الطريف هنا أنّ القرآن لا يقول: اقترب المتقون أو أزلف المتقون إلى الجنة، بل يقول: (وأُزلفت الجنة للمتقين) وهذا يدل على مقامهم الكريم وعِظَمِ شأنِهم!...
كما ينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة، وهي أن التعبير بالغاوين هو التعبير ذاته الوارد في قصة الشيطان، إذ طرده الله عن ساحته المقدسة فقال له: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتّبعك من الغاوين).(2)
ثمّ يتحدث القرآن عن ملامةِ هؤلاء الضالين، وما يُقالُ لهم من كلمات التوبيخ أو العتاب، فيقول: (وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله) فهل يستطيعون معونتكم في هذه الشدة التي أنتم فيها، أو أن يطلبوا منكم أو من غيركم النصر والمعونة (هل ينصرونكم أو ينتصرون) (3)...
إلاّ أنّهم لا يملكون جواباً لهذا السؤال! كما لا يتوقع أحد منهم ذلك!... (فكُبكُبوا فيها هم والغاوون).
كما يقول بعض المفسّرين: إن كلاًّ منهم سيُلقى على الآخر يوم القيامة! (وجنود إبليس أجمعون).
وفي الحقيقة أن هذه الفرق الثلاث، الأصنام والعابدين لها وجنود إبليس
الدالين على هذا الإنحراف، يساقون جميعاً إلى النار... ولكن بهذه الكيفية... وهي أن تلقى الفرق فرقةً بعد أخرى في النار. لأن "كُبكِبوا" في الأصل مأخوذة من (كبّ) ، و (الكبّ) معناه إلقاء الشيء بوجهه في الحفرة وما أشبهها، وتكراره "كبكب" يؤدي هذا المعنى من السقوط، وهذا يدلّ أنّهم حين يُلقون في النار مثلهم كمثل الصخرة إذ تهوى من أعلى الجبل أو تلقى من قمة الجبل، فهي تصل أولا نقطةً ما في الوادي ثمّ تتدحرج إلى نقاط أُخر حتى تستقرّ في القعر!.
إلاّ أن الكلام لا يقف عند هذا الحدّ، بل يقع النزاع والجدال بين هذه الفرق أو الطوائف الثلاث، فيجسم القرآن مخاصمتهم هنا، فيقول: (قالوا وهم فيها يختصمون).
أجل... إن العبدَةَ الضالين الغاوين يقسمون بالله فيقولون: (تالله إن كنّا لفي ضلال مبين(4) إذ نسويكم برب العالمين(5) وما أضلّنا إلاّ المجرمون)...
المجرمون الذين كانوا سادة مجتمعاتنا ورؤساءنا وكبراءنا، فأضلونا حفظاً لمنافعهم، وجرّونا إلى طريق الشقوة والغواية... كما يحتمل أن يكون المراد من المجرمين هم الشياطين أو الاسلاف الضالين الذين جرّوهم إلى هذه العاقبة الوخيمة.
(فيما لنا من شافعين ولا صديق حميم)...
والخلاصة أن الأصنام لا تشفع لنا كما كنا نتصور ذلك في الدنيا، ولا يتأتى لأي صديق أن يعيننا هنالك...
وممّا ينبغي الإلتفات إليه، أنّ كلمة (شافعين) جاءت في الآية السابقة بصيغة الجمع كما ترى، إلاّ أن كلمة (صديق) جاءت بصيغة الإفراد، ولعلّ منشأ هذا التفاوت والإختلاف، هو أن هؤلاء الضالين يرون بأمُ أعينهم المؤمنين الجانحين
يشفع لهم الأنبياء والأوصياء أو الملائكة وبعض الأصدقاء الصالحين، فأُولئك الضالون يتمنون الشافعين أيضاً، وأن يكون عندهم صديق هنالك!...
إضافةً إلى ذلك فإن كلمتي (الصديق) و (العدو) كما يقول بعض المفسّرين، تطلقان على المفرد والجمع أيضاً...
إلاّ أنّهم ما أسرع أن يلتفتوا إلى واقعهم المرّ، إذْ لا جدوى هناك للحسرة ولا مجال للعمل في تلك الدار لجبران ما فات في دنياهم، فيتمنون العودة إلى دار الدنيا... ويقولون: (فلو أنْ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين)...
وصحيح أنّهم في ذلك اليوم وفي عرصات القيامة يؤمنون بربّهم، إلاّ أن هذا الإيمان نوع من الإيمان الإضطراري غير المؤثر، وليس كالايمان الإختياري، وفي هذه الدنيا حيث يكون أساساً للهداية والعمل الصالح.
ولكن لا يحقق هذا التمني شيئاً، ولا يحلُّ مُعْضلا، ولن تسمح سنةً الله بذلك، وهم يدركون تلك الحقيقة، لأنّهم يتفوّهون بكلمة "لو"(6)...
وأخيراً بعد الإنتهاء من هذا القِسمِ من قصة إبراهيم، وكلماته مع قومه الضالين، ودعائه ربَّه، ووصفه ليوم القيامة، يكرر الله آيتين مثيرتين بمثابة النتيجة لعبادة جميعاً، وهاتان الآيتان وردتا في ختام قصة موسى وفرعون، كما وردتا في قصص الأنبياء الآخرين من السورة ذاتها فيقول: (إنّ في ذلك لآيةً وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)...
وتكرار هاتين الآيتين، هو للتسرية عن قلب النّبي(ص) وتسليته ومن معه من الصحابة القلة وكذلك المؤمنين في كل عصر ومصر لئلا يستوحشوا في الطريق من قلة أهله وكثرة الأعداء... وليطمئنوا إلى رحمة الله وعزته، كما أن هذا التكرار بنفسه تهديد للغاوين الضالين. وإشارة إلى أنه لو وجدوا الفرصة في حياتهم وأمهلهم الله إمهالا فليس ذلك عن ضعف منه سبحانه، بل هو من رحمته وكرمه!
ملاحظات
1 - القلب السليم - وحده - وسيلة النجاة
في اثناء كلام إبراهيم الخليل(ع) قرأنا ضمن ما ساقته الآيات المتقدمة من تعابير في وصف القيامة، أنّه لا ينفع في ذلك اليوم شيء (إلاّ من أتى الله بقلب سليم).
(السليم) مأخوذ من السلامة، وله مفهوم واضح، وهو السالم والبعيد من أيّ انحراف أخلاقي وعقائدي، أو أيّ مرض آخر!...
تُرى... ألمْ يقل الله القرآن في شأن المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).(7)
ونلاحظ تعاريف للقلب السليم في عدد من الأحاديث الغزيرة المعنى.
1 - ففيّ حديث عن الإمام الصادق(ع) - ذيل الآية محل البحث(8) - يقول فيه: "وكل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط".
2 - ونعلم من جهة أُخرى أن العلائق المادية الشديدة وحب الدنيا... كل ذلك يجرّ الإنسان إلى كل انحراف وخطيئة، لأن "حبّ الدنيا رأس كل خطيئة"(9).
ولذلك فالقلب السليم هو القلب الخالي من حبّ الدنيا، كما ورد هذا المضمون في حديث للإمام الصادق(ع) - ذيل محل البحث - إذ يقول: "هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا".(10)
ومع الإلتفات إلى الآية (197) من سورة البقرة إذ تقول: (وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى)... يتّضح أن القلب السليم هو القلب الذي يكون محلا لتقوى الله.
3 - وآخر ما نقوله - هنا - أنّ القلب السليم هو القلب الذي ليس فيه سوى الله، كما يجيب الإِمام الصادق(ع) على سؤال في هذا الشأن فيقول: "القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه".(11)
ولا يخفى أن المراد من القلب في مثل هذه الموارد هو روح الإنسان ونفسُه.
وهناك مسائل كثيرة وردت في الروايات الإسلامية تتحدث حول سلامة القلب والآفات التي تصيبه، وطريق مبارزتها ومكافحتها، ويستفاد من مجموع هذا المفهوم الإسلامي المتين أن الإسلام يهتم قبل كلّ شيء بالأساس الفكري والعقائدي والأخلاقي، لان جميع المناهج التطبيقية والعملية للإنسان هي إنعكاسات لذلك الأساس وآثاره!...
فكما أنّ سلامة القلب الظاهرية سبب لسلامة الجسم، وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعاً، لأنّ تغذية الخلايا في البدن تتمّ بواسطة الدم الذي يتوزع ويُرسل إلى جميع الأعضاء بإعانةِ القلب على هذه المهمّة... فكذلك هي الحال بالنسبة لسلامة مناهج حياة الإنسان وفسادها، كل ذلك انعكاس عن سلامة العقيدة والأخلاق أو فسادهما...
ونختتم هذا البحث بحديث عن الإمام الصادق(ع) إذ قال: "إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهرُ أجرد; "أجرد من غير الله" إلى أن قال(ع): وأمّا الأزهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر. وأمّا المنكوس فقلب المشرك (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم من يمشي سوّياً على صراط مستقيم) فإن القلب الذي فيه إيمان ونفاق، فهم قوم كانوا بالطائف، فإن أدرك أحدُهم أجله على نفاقه هلك، وإن أدركه على إيمانه نجا".(12)
2 - وجاء في الروايات متعددة عن الإمامين الصادقين (أبي جعفر وأبي عبد الله(ع)) في تفسير (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قولهما: "هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره".(13)
وهذا الحديث يدل على أنّ القول بلا عمل قبيح ومذموم جدّاً، إذ يلقي أصحابه في النار، فأولئك قوم ضالون مضلّون، وكلامهم يهدي، الناس إلى الحق، بينما عملهم يجرّهم إلى الباطل، بل إن عملهم كاشف عن عدم إيمانهم بأقوالهم!
وينبغي الإلتفات - ضمناً - إلى أن كلمة "غاوون" المأخوذة من "الغيّ" لا تعني الضلال مطلقاً، بل كما يقول الراغب في المفردات: هو نوع من الجهل والضلال الناشيء عن فساد العقيدة.
3 - وردت في ذيل الآية (فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) روايات متعددة، وبعضها صريحة في أن: "الشافعون الأئمّة والصديق من المؤمنين".(14)
وجاء في حديث آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمع رسول الله(ص) يقول: "إن الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم".(15)
وبديهي أنّه لا الشفاعة بدون معيار وملاك، ولا السؤال في شأن الصديق دون حساب، فلا بد من وجود ارتباط أو علاقة بين الشفيع والمشفوع له ليتحقق هذا الهدف... "بينّا تفصيل هذا الموضوع في بحث الشفاعة، في تفسير الآية 48 من سورة البقرة - فليُراجع في محله".
1- سورة مريم، الآية 50.
2- البقرة، الآية 129.
3- لمزيد الإِيضاح يراجع تفسير الآية 114 سورة التوبة.
4-أُزلفتْ: فعل مشتق من (الزلفى) على وزن (كبرى) ومعنى الفعل "قربت".
5- سورة الحجر، الآية 42.
6- قد يكون المراد من "ينتصرون" هو أن يطلبوا العون والنصر لأنفسهم أو لغيرهم... أو مجموعهما، لاننا سنلاحظ في الآيات المقبلة أن العَبدَةَ ومعبوديهم يساقون إلى النار.
7-(إن كنا) مخففة من (إنّا كنا)... ـ يُحتمل أن تكون (إذ) هنا للظرفية، كما يحتمل أن تكون تعليلية... تعدّ (لو) من حروف الشرط ـ وعادةً ـ تستعمل حينما يكون الشرط محالا....
8- سورة البقرة، الآية 10.
9- راجع مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
10- بحار الأنوار، ج 70، ص 239 .
11- تفسير الصافي في ذيل الآية محل البحث.
12- الكافي... طبقاً لما جاء في تفسير الصافي ـ ذيل الآية محل البحث.
13- أصول الكافي ج 2 ص 422 طـ الرّابعة، باب في ظلمة قلب المنافق.
14- نقل هذه الرواية مؤلف تفسير نور الثقلين عن أصول الكافي، وتفسير علي بن إبراهيم، والمحاسن للبرقي.
15- المحاسن للبرقي. ذيل الآية محل البحث.