الآيات 69 - 82
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَهِيمَ(69) إذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَـكُفِينَ(71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73) قَالوُاْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلوُنَ(74) قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنتُمْ وَءَابآؤُكُمُ الاَْقْدَمُونَ(76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى إِلاَّ رَبَّ الْعَـلَمِينَ (77) الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ(78) والَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينَ(80) والَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَلِى خَطَيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ(82)﴾
التّفسير
أعبدُ ربَّاً... هذه صفاته:
كما ذكرنا في بداية هذه السورة، فإِنّ الله يبيّن حال سبعة من الأنبياء العظام، ومواجهاتهم أقوامهم لهدايتهم، لتكون "مدعاة" تسلية للنّبي(ص) والمؤمنين القلّة معه في عصره، وفي الوقت ذاته إنذار لجميع الأعداء والمستكبرين أيضاً...
لذلك تعقّب هذه الآيات على قصّة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبيّن قصة إبراهيم ومواجهاته المشركين، وتبدأ هذه الآيات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر(1) فتقول: (واتلُ عليهم نبأ إبراهيم).
ومن بين جميع الأخبار المتعلقة بهذا النبيِّ العظيم يركّز القرآن الكريم على هذا القِسْمِ: (إذْقالَ لأبيهِ وقومه ما تعبدون) ؟
ومن المسلّم به أنّ إبراهيم كان يعلم أيّ شيء يعبدون، لكن كان هدفه أن يستدرجهم ليعترفوا بما يعبدون، والتعبير بـ "ما" مبيّنٌ ضمناً نوعاً من التحقير!
فأجابوه مباشرةً (قالوا نعبدُ أصناماً فنظلُّ لها عاكفين)! وهذا التعبير يدلّ على أنّهم يحسّوا بالخجل من عملهم هذا، بل يفتخرون به، إذا كان كافياً أن يجيبوه: نعبد أصناماً، إلاّ أنّهم أضافوا هذه العبارة: (فنظل لها عاكفين)!
التعبير بـ "نظلّ" يُطلق عادة على الأعمال التي تؤدى خلال اليوم، وذكره بصيغة الفعل المضارع إشارة إلى الإستمرار والدوام.
كلمة "عاكفين" مأخوذة من "العكوف"، ومعناه التوجه نحو الشيء وملازمته باحترام، وهي تأكيد لما سبق من التعبير.
"الأصنام" جمع الصنم، وهو الهيكل أو التمثال المصنوع من الذهب أو الخشب أو ما شاكلهما للعبادة، وكانوا يتصورون أنها مظهر للتقديس...
وعلى كل حال، فإنّ إبراهيم لما سمع كلامَهم رشقهم بنبال الإشكال والإعتراض بشدّة، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق، فـ (قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) ؟!
إن أقلّ ما ينبغي توفره في المعبود هو أنْ يسمعَ نداء عابده، وأن ينصره في البلاء، أو يضره عند مخالفة أمره!...
إلاّ أن هذه الأصنام ليس فيها ما يدلُّ على أن لَها أقلّ إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب الناس، فهي أحجار أو فلزات "أو معادن أو خشب لا قيمة لها! وإنّما أعطتها الخرافات هذه الهالة وهذه القيمة الكاذبة!...
إلاّ أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائماً، فـ (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).
وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردّوا به على إبراهيم(ع) ، وهو جواب دليلُ بطلانه كامنٌ فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفَو أثرَ غيره ويصم أُذنيه ويغمضُ عينيه، ولا سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!...
والتعبير بـ (كذلك يفعلون) تأكيد أكثر على تقليدهم، أي نفعل كما كانوا يفعلون، سواءً عبدوا الأصنام أم سواها.
فالتفت إبراهيم مُوبّخاً لهم ومبيناً موقفة منهم و (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنّهم عدوّلي إلاّ ربَّ العالمين)...
أجلْ... إنّهم جميعاً أعدائي وأنا معاديهم، ولا أسالمهم أبداً...
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أن إبراهيم الخليل(ع) يقول: "فإنّهم عدوٌّ لي" وإن كان لازم هذا التعبير أنّه عدوّ لهم أيضاً، إلاّ أن هذا التعبير لعله ناشىء من أن عبادة الأصنام أساس الشقاء والضلال وعذاب الدنيا والآخرة "للإنسان"، وهذه الأُمور في حكم عداوتها للانسان. أضف إلى ذلك أنه يستفاد من آيات متعددة من القرآن أن الأصنام تبرأ من عبدتها يوم القيامة وتعاديهم، وتحاججهم بأمر الله وتنفر منهم.(2)
واستثناء ربّ العالمين مع أنّه لم يكن من معبوداتهم، وكما يصطلح عليه استثناء منقطع، إنّما هو للتأكيد على التوحيد الخالص.
كما يَرِدُ هذا الإحتمال وهو أن من بين عبدة الأصنام من كان يعبدُ الله إضافة إلى عبادة الأصنام، فاستثنى إبراهيم "ربّ العالمين" من الأصنام، رعايةً لهذا الموضوع...
وذكر الضمير "هم" الذي يستعمل عادةً للجمع "في العاقلين" وقد ورد في شأن الأصنام، لما ذكرناه من بيان آنفاً...
ثمّ يصف إبراهيم الخليل ربّ العالمين ويذكر نعمه المعنوية والماديّة، ويقايسها بالأصنام التي لا تسمع الدعاء ولا تنفع ولا تضرّ، ليتّضح الأمر جليّاً...
فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول: (الذي خلقني فهو يهدين) فقد هداني في عالم التكوين، ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية، كما هداني في عالم التشريع فأوحى إليّ وأرسل إليّ الكتاب السماوي...
وذكر "الفاء" بعد نعمة الخلق، هو إشارة إلى أن الهداية لا تنفصل عن الخلق أبداً، وجملة (يهدين) الواردة بصيغة الفعل المضارع، دليل واضح على استمرار هدايته، وحاجة الإنسان إليه في جميع مراحل عمره!
فكأن أبراهيم في كلامه هذا يريد أن يبيّن هذه الحقيقة، وهي إنّني كنت مع الله منذ أن خلقني، ومعه في جميع الأحوال، وأشعر بحضوره في حياتي، فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما شاء!...
وبعد بيان أولى مراحل الربوبية، وهي الهداية بعد الخلق، يذكر إبراهيم الخليل(ع) النعم المادية فيقول: (والذي يطعمني ويسقين).
أجلْ، إنّني أرى النعم جميعاً من لطفه، فلحمي وجلدي وطعامي وشرابي، كل ذلك من بركاته!...
ولست مشمولا بنعمة في حال الصحةِ فقط، بل في كل حال (وإذا مرضت فهو يشفين).
ومع أنّ المرض أيضاً قد يكون من الله، إلاّ أن إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للأدب في الكلام...
ثمّ يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها... إلى الحياة الدائمة في الدار الآخرة، ليكشف أنه على مائدة الله حيثما كان، لا في الدنيا فحسب، بل في الآخرة أيضاً. فيقول: (والذي يميتني ثمّ يحيين).
أجل، إنّ موتي بيده وعودتي إلى الحياة مرّة أُخرى منه أيضاً..
وحين أرِدُ عرصات يوم القيامة اعلقّ حبل رجائي على كرمه: (والذي أطمع أن يغفرلي خطيئتي يوم الدين).
وممّا لا شك فيه أن الأنبياء معصومون من الذنب، وليس عليهم وزر كي يُغفر لهم... إلاّ أنّه - كما قلنا سابقاً - قد تعدّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين أحياناً، وقد يستغفرون أحياناً من عمل صالح لأنّهم تركوا خيراً منه... فيقال عندئذ في حق أحدهم: تَركَ الأَولى.
فإبراهيم(ع) لا يعوّل على أعماله الصالحة، فهي لا شيء بإزاء كرم الله، ولا تُقاس بنعم الله المتواترة، بل يعوّل على لطف الله فحسب، وهذه هي آخر مرحلة من مراحل الإنقطاع إلى الله!...
وملخّص الكلام أن إبراهيم(ع) من أجّلِ أن يبيّن المعبود الحقيقي يمضي نحو خالقيّة الله أولا، ثمّ يبيّن بجلاء مقام ربوبيته في جميع المراحل:
فالمرحلة الأُولى مرحلة الهداية.
ثمّ مرحلة النعم الماديّة، وهي أعمّ من إيجاد المقتضي والظروف الملائمة أو دفع الموانع...
والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الحياة الدائمة في الدار الأُخرى، فهناك يتجلَّى وجه الرب بالهبات والصفح عن الذنوب ومغفرتها!...
وهكذا يبطل إبراهيم الخرافات التي كانت في قومه، من تعدد الآلهة والأرباب وينحني خضوعاً للخالق العظيم.
1- والذاريات الآية 40.
2- العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي المعمورة.