الآيات 60 - 68
﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ(60) فَلَمَّا تَرَءا الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـبُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ(62) فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالَّطوْدِ العَظِيمِ(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاَْخَرِينَ(64) وَأَنجيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ(65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(66) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(67) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)﴾
التّفسير
عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة
في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصّة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم!
وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأَ مقداراً كافياً من "القوّة" والجيش، قال بعض المفسّرين: كان ما أرسله فرعون على أنّه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل "أي مليون".(1)
تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحاً كما تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (فاتبعوهم مشرقين(2) فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون).
فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة... هؤلاء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالا... وفرعون نفسه رجل دموي جبار... فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا جميعاً بحدّ السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا، والقرائن جميعها تدل على ذلك.
وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل... لحظات مُرّة لايمكن وصف مرارتها... ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم.
إلاّ أنّ موسى(ع) كان مطمئناً هادىء البال، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لايتخلف أبداً ولن يخلف الله وعده رسله!...
لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة و (قال كلاّ إن معي ربّيْ سيهدين).
ولعلّ هذا التعبير يشير إلى وعد الله لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما، إذ قال لهما: (إنّي معكما أسمع وأرى).(3)
إذ كان موسى يعلم أن الله معه في كل مكان، وخاصّة تعويله في كلامه على كلمة (ربّي) أي الله المالك والمربّي هذا يدل على أنّ موسى(ع) كان يدري أنّه لا يطوي هذا الطريق بخطاه، بل بلطف الله القادر الرحيم...
وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر الله كما يقول القرآن: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر...).
تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار، وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة!
فامتثل موسى(ع) أمر ربه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقَّ البحر (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)!
و "انفلق" مأخوذ من "الفَلَق" ومعناه الإنشقاق و "فَرَقَ" من مادة "فرْق" على زنة "حلق" ومعناه الإنفصال!
وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: أن الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أن الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الإنشطار) والثّاني يشير إلى الإنفصال، ولذا تطلق الفرقة والفِرَق على القطعة أو الجماعة التي انفصلت عن البقيّة!...
"الطود" معناه الجبل العظيم، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.
وعلى كل حال، فإنّ الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر، وأمواجه، فالتحمت الأمواج وتراكمت بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طُرُق سالكة، فمرّتْ كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق!
إلاّ أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مَركبِ غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: (وأزلفنا ثمّ الآخرين)...
وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضاً، واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرقّوهم بطغيانهم، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية، وأن عذاب الله سينزل فيهم!
وتقول الآية التالية: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين).
وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر الله فعادت الأمواج إلى حالتها الأُولى فانهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كل منهم كالقشّة في وسط الأمواج المتلاطمة.
ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: (ثمّ أغرقنا الآخرين)...
وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة... فالأرقاء أصبحوا أحراراً، وهلك الجبابرة، وانطوت صفحة من صفحات التأريخ، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والمُلكَ المستضعفون بعدهم.
أجل (إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) فكأنّ في أعينهم عمىً، وفي آذانهم وقراً، وعلى قلوب أقفالا.
فحيثُ لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فلا تعجبُ إذاً ألاّ يؤمن بك المشركون - يا محمد - ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم، فالتاريخ - يحمل بين طياته وثناياه كثيراً من هذه المشاهد!
والتعبير بـ "أكثرهم" إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه، لا آسيةُ امرأة فرعون فحسب، ولا رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل فرعون، بل آخرون أيضاً كالسحرة التائبين مثلا.
أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة الله ورحمته المطلقة واللامتناهية، فتقول: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، ولا يحتاج أن يرسل جنوداً من ملائكة السماء لإهلاك أُمة جبّارة... فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه!!
ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبداً، بل يمهل سنين طوالا. ويرسل معاجزه إتماماً للحجة، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.
مسائل مهمة:
1 - معبر بني إسرائيل!
ورد التعبير في القرآن مراراً عن موسى أنه عبر بقومه "البحر"(4) كما جاء في بعض الآيات لفظ "اليمّ" بدلا من البحر.(5)
والآن ينبغي أن نعرف ما المراد من "البحر" و "اليم" هنا، أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع في مصر، النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الأحمر "المعروف ببحر القلزم في بعض المصطلحات"؟
يستفاد من التوراة الحالية - وكذلك من كلمات بعض المفسّرين - أنه إشارة إلى البحر الأحمر... إلاّ أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النيل، لأن "البحر" كما يقول الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع، واليم بهذا المعنى أيضاً. فلا مانع إذاً من إطلاق الكلمتين على نهر النيل.
وأمّا القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي:
1 - أنّ منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزاً لمدن مصر العامرة كانت نقطة قريبةً من النيل حتماً... وإذا أخذنا بنظر الإعتبار معيار محلهم الفعلي "الأهرام" أوما حولها، فإنّ بني إسرائيل لابدّ لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى الأرض المقدسة، لأن هذه المنطقة تقع غرب النيل ولابدّ لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الأرض المقدسة! "فلاحظوا بدقة"!
2 - أنّ الفاصلة بين المناطق العامرة(6) من مصر والتي هي قريبة من النيل بالطبع، بعيدة عن البحر الأحمر بحيث لا يمكن أن تُطوى المسافة بينها وبين البحر بليلة أو نصف ليلة...
ويستفاد من الآيات المتقدمة بوضوح أن بني إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليلا، وطبيعي أن تكون المغادرة في الليل. أمّا فرعون وجيشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين "عند الصباح".
3 - لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر الأحمر حتى يصلوا الأرض المقدسة، إذ كانت هناك منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس "أو ما يصطلح عليها بقناة السويس"... إلاّ أن نفترض أن البحر الأحمر كان متصلا بالبحر الأبيض المتوسط في الزمن السابق، ولم تكن هناك منطقة يابسة، وهذا الفرض غير ثابت بأيّ وجه!...
4 - يُعبّر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في "اليم" "من قِبَلِ أُمه" الآية 39 من سورة طه، كما يعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) الآية 78 من السورة ذاتها. وكلتا القضيتين في قصة واحدة وسورة واحدة أيضاً (طه) وكون اللفظين مطلقين - (اليم) في الآية السابقة و(اليم) في الآية اللاحقة - يُشعر بأنّهما واحد... ومع ملاحظة أن أمّ موسى لم تلق موسى في البحر الأحمر قطعاً، بل ألقته في النيل طبقاً لما تذكره التواريخ، فيعلم أن غرق فرعون وقومه كان في النيل "فلاحظوا بدقّة".
2 - كيفية نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه هناك بعض المفسّرين ممن لا يميل إلى كون نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه معجزةً، بل حادثة طبيعية، كما يصرّون على ذلك، فوجّهوا ذلك كله بأسباب طبيعية،.
لذلك قالوا: إنّ هذا الموضوع يمكن تطبيقه بواسطة الجسور المتحركة المستعملة في العصر الحديث.(7)
وقال بعضهم: إنّ موسى(ع) كان مطلعاً على طرق خاصّة، وكان يمكنه العبور من البرازخ (أو الطرق الموجودة في بحر سوف) أي خليج السويس، إلى جزيرة سيناء. وانفلاق البحر - في الآيات محل البحث - إشارة إلى هذا المعنى(8)...
وقال بعضهم: من المحتمل جداً أن يكون وصول موسى وقومه البحر عند منتهى جزره، فاستطاع أن يعبر بهم من النقاط اليابسة ويجتازها بسرعة، ولكن عندما ورد فرعون وقومه البحر شرع المدّ فوراً فأُغرقوا بالنيل حينئذ وهلكوا...
ولكن الحق أن أيّاً من هذه الإحتمالات لا ينسجم وظاهر الآيات - إن لم نقل وصريح الآيات - ومع قبول معاجز الأنبياء الوارد بيانها مراراً في سور القرآن، وخاصّة معجزة عصا موسى نفسها، فلا حاجة لمثل هذه التوجيهات...
فما يمنع أن تتراكم أمواج النيل بعد ضربها من قِبَل موسى بالعصا بأمر الله الحاكم على قانون العَليّة في عالم الوجود، وتنجذب متأثرة بما فيها من سرّ غامض، لتترك طريقاً يَبساً بيّناً (يمرّ في وسط البحر) ثمّ تتلاشى هذه الجاذبيّة بعد
مدة، ويعود البحر إلى حالته الطبيعية وإلى أمواجه المتلاطمة!... وليس هذا استثناءً في قانون العليّة، بل هو اعتراف بتأثير علل غير معتادة، لا نعرفها لقصور علمنا أو لقلّة معلوماتنا!
3 - الله عزيز رحيم
ينبغي ملاحظة هذه اللطيفة، إذ جاءت الآية الأخيرة - من الآيات محل البحث - بمثابه استنتاج لما جرى من أمر موسى وفرعون وقومهما، وانتصار جيش الحق وانهزام الباطل! إذ تصف هذه الآية "الله" سبحانه بالعزيز الرحيم... فالوصف الأوّل إشارة إلى أنّ قدرته لا تضعف ولا تُقهر، والوصف الثّاني إشارة إلى أنه يوصل رحمته لعباده جميعاً، وخاصّة بتقديم وصف (العزيز) على (الرحيم) لئلا يُتوهّم أن رحمته من منطلق الضعف، بل هو مع قدرته رحيم!...
وبالطبع فإنّ من المفسّرين مَنْ يرى أن وصفه بالعزيز إشارة إلى اندحار أعدائه، ووصفه بالرحيم إشارة إلى انتصار أوليائه، إلاّ أنه لا مانع أبداً أن يشمل الوصفان الطائفتين معاً... لأنّ الجميع ينعمون برحمته حتى المسيئون... والجميع يخافون من سطوته حتى الصالحون...
1- راجع مجمع البيان والقرطبي: ذيل الآيات محل البحث، كما أن الألوسي فسّر هذا الموضوع في روح المعاني تفسيراً يستحق النظر!.
2- روح المعاني ذيل الآيات محل البحث.
3- كلمة مليون وأخواتها (مليار، بليون الخ) من مصطلحات العصر وهي غير عربية، وكان العرب يقولون ألف ألف.
4- قال بعض المفسّرين: المراد من "مشرقين"، أن بني اسرائيل ساروا نحو الشرق، واتّباع فرعون وقومه بالإتجاه نفسه، لأنّ بيت المقدس يقع شرق مصر!.
5- سورة طه، الآية 46.
6- اقرأ في سورة "يونس: الآية 90 ـ وطه الآية 77 ـ والشعراء الآية 63، والآية محل البحث أيضاً.
7-اقرأ سورة طه الآية 78.
8-والقصص الآية 40.