الآيات 52 - 59

﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَآئِنِ حـشِرِين(53) إنَّ هَـؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَـهُم مِّن جَنَّـت وَعُيُون(57) وَكُنُوز وَمَقام كَريم (58) كَذَلِكَ وَأَورَثْنَـهَا بَنِى إِسْرءِيلَ(59)﴾

التّفسير

مصير الفراعنة:

في الآيات المتقدمة... رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلاّ أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة، يعدُّ كلٌ منها انتصاراً مهمّاً:

1 - آمن بنو إسرائيل بنبيّهم "موسى(ع) " والتفّوا حوله بقلوب موحّدة... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّاً سماوياً في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأنّ يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون..

2 - لقد شقّ موسى(ع) طريقة وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على الأقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء!

3 - وأهمّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة - لا من جهة أفكار عامّة الناس، ولا من جهة الخوف على مقامة - على مواجهة رجل له عَصَا كهذه العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى.

هذه الأُمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى(ع) دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم!

ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى(ع) يظهر المعاجز تلو المعاجز - كما أشارت إليها سورة الأعراف وبينّاها في ذيل الآيات 130 - 135 منها - إلى جانب منطقه المتين، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتّقون "لمزيد الإيضاح لا بأس بمراجعة تفسير الآيات آنفة الذكر"...

ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحيُ على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلا: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنّكم متبعون).

وهذه خطة إلهية على موسى(ع) أن يمتثلها ويسري بقومه ليلا، وإنّ على فرعون وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله.

والتعبير بـ "عبادي" بضمير الإفراد، مع أن الفعل (أوحينا) في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع، إنّما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين...

وفعلا امتثل موسى(ع) هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة.

إلاّ أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين).

بالطبع فإنّ في تلك الظروف، وصول إبلاغ فرعون إلى المدائن، وجميع مناطق مصر، يحتاج إلى زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلاغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدّة فوراً، وتؤدي مقدمة الجيش مهمّتها، وتتبعها بقية الأفواج بالتدريج...

ولتعبئة الناس - ضمناً - وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن (إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون).

فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.

و "الشرذمة" في الأصل تعني القلة من الجماعة، كما تعني ما تبقى من الشيء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق "شراذم"، فبناءً على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء "أي موسى وقومه" بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأن فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم...

ثمّ تضيف الآية الأُخرى حاكية عن لسان فرعون (وإنّهم لنا لغائظون) فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!

ثمّ إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: (وإنا لجميع حاذرون) ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.

وقد فسّر بعضهم "حاذرون" على أنها من الحذَر، بمعنى الخوف والخشية من التآمر، وفسّر بعضهم (حاذرون) على أنها من الحذِر، بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلاح والقوّة. إلاّ أن هذين التّفسيرين لا منافاة بينهما، فربّما كان فرعون وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضاً.

ثمّ يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: (فأخرجناهم من جنات وعيون... وكنوز ومقام كريم).

أجل (كذلك وأورثناها بني إسرائيل).

وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (مقام كريم) ، فقال بعضهم بأنّها القصور المجللة والمساكن المظللة...

وقال بعضهم بأنّها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط.

وقال بعضهم: المراد مقام الحكام والأمراء، الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم وجنودهم يمتثلون أوامرهم...

وقال بعضهم: بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء "المنابر التي كانت لصالح فرعون وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلام له".

وبالطبع فإن المعنى الأوّل أنسب من الجميع كما يبدو، رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعاً في مفهوم الآية... فالمستكبرون (فرعون وقومه) أخرجوا من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم، كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور والسرور.

ملاحظتان

1 - هَلْ حكمَ بنُو إسرائيلَ في مصرَ؟!

على أساس تعبير الآيات المتقدمة (كذلك وأورثناها بني اسرائيل)... فإنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على الحكم، ومكثوا في مصر حاكمين مدّة.(1)

وظاهر الآيات المتقدمة يناسب هذا التّفسير.

في حين أن بعض المفسّرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلاّ أنّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم.(2)

وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا التّفسير.

ويعتقد بعض آخر من المفسّرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة منهم بقيت في مصر وحكمت فيها، وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس.

وذكر احتمال آخر، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى(ع) وفي زمان النّبي سليمان بن داود، والآية (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) ناظرة إلى هذا المعنى!

إلاّ أنّه مع ملاحظة أن موسى(ع) نبي ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد اُمورها بيده فيذرها كلياً دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناءً على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالين... أمّا أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول: إن قسماً منهم بقوا في مصر بأمر موسى(ع) واستولوا على العرش وحكموا في مصر!... وفي غير هاتين الحالين لا يتجلّى مفهوم لاخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها...

2 - ترتيب الآيات

يشرح القرآن فيما يأتي من الآيات كيفية غرق فرعون واتباعه، وهذا الأمر يدعو إلى التساوءل: كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه "ذلك" بني إسرائيل! ثمّ يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي للآيات ليس كذلك...

هذا الأمر ربّما يكون من قبيل بيان الإجمال ثمّ التفصيل، أي أن القرآن ذكر الموضوع أوّلا بصورة مجملة، ثمّ وضحه في الآيات الاُخَر!

كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة، ثمّ شرح المقدمات "فتدبر".


1- تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 208 .

2- جاء التعبير في هذه الآية والآية (71) من سورة طه بـ (آمنتم له) وجاء التعبير في الآية (123) من سورة الأعراف (آمنتم به) وكما يقول أصحاب اللغة: إن الإيمان إذا تعدى باللام فإنه يعني الخضوع، وإذا تعدى بالباء فإنه يعني التصديق!.