الآيات 23 - 29
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رِبُّ العَـلَمِينَ(23) قَالَ رَبُّ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ(24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ(25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الاَْوَّلِينَ(26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لََمجْنُونٌ(27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ(28) قَالَ لَئِن اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِى لاََجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ(29)﴾
التّفسير
الإتهام بالجنون والتهديد بالسجنِ:
حين واجه موسى(ع) فرعون بلهجة شديدة: وأجابه بضرس قاطع، وأفحم فرعون في ردّه، غيّر فرعون مجرى كلامه، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين، و (قال فرعون وما ربّ العالمين)..
ومن المستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد سأل موسى(ع) هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع، بل يبدو أنّه سأله متجاهلا ومستهزئاً.
إلاّ أنّ موسى - على كل حال - لم يجد بُداً كسائر الباحثين الواعين اليقظين، أن يجيب على فرعون بجدّ... وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس، فإنّهُ أخذ يحدثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذْ (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما إن كنتُمْ موقنين).
فالسماوات بما فيهن من عظمة، والأرض على سعتها... والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلاّ ذرّة في مقابل المجرّة! كلّها من خلق ربّي، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!...
وينبغي الإلتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكلّ موجود في هذا العالم ربّاً، وكانوا يعدّون العالم تركيباً من نُظُم متفرقة، إلاّ أن كلام موسى(ع) يشير إلى أن هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له ربّاً واحداً...
وجملة (إن كنتم موقنين) لعلها إشارةً إلى أنّ موسى(ع) يريد أن يفهم فرعون ومن حوله - ولو تلويحاً - أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة... لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله كافياً.. فكأنّه يقول لهم: افتحوا أعينكم قليلا وتفكروا ساعة في السماوات والأرض بما فيهما من الآثار وعجائب المخلوقات... لتطلعوا على معالمها وتصححوا نظرتكم نحو الكون!
إلاّ أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي... فعاد لمواصلة الإستهزاء والسخرية، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور، و (قال لمن حوله ألا تستمعون).
ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوّة والظلم والقهر والمال.
يقول ابن عباس: كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر، وهم يعدّون من خواص قومه.(1)
وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لأُولئك الرهط... فعدّه كلاماً بلا محتوى وغير مفهوم.
إلاّ أن موسى(ع) عاد مرّةً أُخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام، فواصل كلامه و (قال ربّكم وربّ آبائكم الأولين).
إن موسى(ع) بدأ في المرحلة الأُولى بـ "الآيات الآفاقية"، وفي المرحلة الثّانية أشار إلى "الآيات الانفسية"، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم، ليفكر هؤلاء المغرورون على الأقلّ في أنفسهم ويحاولوا التعرّف عليها وبالتالي معرفة من خلقها.
إلاّ أن فرعون تمادى في حماقته، وتجاوز مرحلة الإستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون، فـ (قال إنّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون)...
وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين!...
وممّا يستجلب النظر أن هذا الضالَّ المغرور لم يكن مستعدّاً حتى لأنّ يقول: "إنّ رسولنا الذي أرسل إلينا"، بل قال: "إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم"، لأن التعبير برسولكم - أيضاً - له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الإستعلائية... يعني: إنني أكبر من أن يدعوني رسول... وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثراً في أفكار الحاضرين.
إلاّ أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسى(ع) ومعنوياته العالية، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس، مبيناً خط التوحيد الأصيل فـ (قال ربّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون).
فإذا كنت - يا فرعون - تحكم حكما ظاهريّاً في أرض محدودة تدعى مصر، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعاً، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات!... وأساساً فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته... إلاّ أنّ العيب كامن فيكم، لأنّكم لا تعقلون، ولم تعتادوا التفكير (وينبغي الإلتفات إلى أن جملة (إن كنتم تعقلون) هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة).
وفي الواقع إن موسى(ع) أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنوناً، وأن المجنون هو من لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق، والعجيب أنه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار، فانه يوجد من لا يفكر في هذه الآثار!".
وصحيح أنّ موسى(ع) أشار بادىء الأمر إلى تدبير أمر السماوات والأرض، إلاّ أنه حيث أن السماء عالية جداً، وأن الأرض ذات أسرار غربية، فقد وضع موسى(ع) أخيراً إصبعه على نقطة لا يمكن لأحد إنكارها; ويواجهها الإِنسان كلّ يوم، وهي نظام طلوع الشمس وغروبها وما فيها من منهج دقيق... وليس لأحد من البشر أن يدعي أنّ بيده نظامها أبداً...
والتعبير بـ "ما بينهما" إشارة إلى الوحدة والإرتباط في ما بين المشرق والمغرب، وهكذا كان التعبير في شأن السماوات والأرض. (قال ربّ السماوات والأرض وما بينهما).
ويبيّن التعبير (ربُكم ورب آبائكم الأولين) أيضاً ارتباط النسل والوحدة فيه...
غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى استعمال "حربة" يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين).
فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!...
ويعتقد بعض المفسّرين أن الألف واللام في "من المسجونين" هما للعهد، وهي إشارة إلى سجن خاص من ألقي فيه يبقى سجيناً حتى تخرج جنازته.(2)
وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي، لأن مواصلة موسى(ع) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس!...
1- يقول الراغب في "المفردات": "الرّسول" من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع، وإن جمعت أحياناً على "الرسُل" فمنهم من يرى أنها مصدر أيضاً ومعناها الرسالة، ونعرف أنه لا تثنية ولا جمع في المصدر. وقد ورد في لسان العرب أن الرّسول بمعنى الرسالة، إلاّ أن هذه الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتماً، وكثيراً ما تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه القصة وقصة موسى وهارون: "إنّا رسولا ربك"!...
2- هذا الكلام يوافق مضمون الحديث الوارد عن الإمام الرضا(عليه السلام) في تفسير الآية، راجع كتاب عيون اخبار الرضا، ج 4، ص 48 نقلا عن "نور الثقلين".