الآيات 10 - 15

﴿وَإذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(10) قَومَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ(11) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافَ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَـروُنَ (13) وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخافُ أَن يَقْتُلُونِ(14) قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأَيَتِنَآ إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ(15)﴾

التّفسير

بداية رسالة موسى:

قلنا إنّ في هذه السورة بياناً لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النّبي(ص)...

فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسى(ع) ، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل!

وقد جاء الكلام عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الآن في سور شتى "كالبقرة والمائدة والأعراف ويونس والإسراء وطه" كما ورد الكلام في هذا الشأن أيضاً في بعض السور التالية!...

وهذه البحوث وإن تكررت - بحسب الظاهر - إلاّ أن الإمعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ بحث منها يتناول جانباً خاصّاً من هذه القصّة ذات المحتوى الغزير، ويعوّل على هدف معين!...

مثلا.. حين نزلت الآيات - محل البحث - كان المسلمون قلّةً ضعافاً وكان أعداؤهم كثرةً أولي قوّة وبأس شديد، بحيث لا يمكن الموازنة بين الفرقتين، فكان ينبغي أن يبيّن الله قصص الأُمم السابقة المشابهة لحال هؤلاء، ليعلم المسلمون أن هذه القوّة التي يمتلكها الأعداء وهذا الضعف الظاهري الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أيٌّ منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين، ولتزداد معنويات المسلمين وتثّبت استقامتهم ومقاومتهم...

وممّا يلفتُ النظر تكرار عبارة: (و ما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربّك لهو العزيز الرحيم) بعد تمام الحديث عن كل نبي... وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النّبي محمّد(ص).. وهذا الإتساق في التعبير شاهد حيّ على أن ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي أكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والإجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون...

فتقول الآيتان الأُوليان من الآيات محل البحث (وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون). ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم، ومن الواضح أن الظلم له معنى جامعٌ واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان (إنّ الشرك لظلم عظيم)...

كما أنَّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الأُخرى أيضاً، ثمّ بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم بجميع أبعاده!...

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى، فيقول في الآية التالية: (قال ربّ إنّي أخاف أن يكذبونِ) وأخشى أن أُطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما أُلاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود...

وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماماً، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فوراً..

وإضافة إلى ذلك فان صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الالهية: (ويضيق صدري).

ثمّ بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها: (ولا ينطلق لساني)...

فلذلك فإني أطلب أن تشدّ أزري بأخي (فأرسل إلى هارون).(1)

لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.

وبغض النظر عن كلّ ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني (ولهم عليّ ذنب) كما يعتقدون لأنّي قتلت واحداً منهم - حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم - بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك (فأخاف أن يقتلونِ).

وفي الحقيقة إنّ موسى(ع) كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه، فكان يطلب من الله حلّها لأداء رسالته وهذه المشاكل هي...

مشكلة التكذيب.

مشكلة ضيق الصدر.

مشكلة عدم الفصاحة الكافية.

و مشكلة القصاص!

ويتّضح ضمناً أنّ موسى لم يكن خائفاً على نفسه، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه مزيد القوّة لهذه المواجهة!...

طلبات موسى(ع) من الله في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة، إذ طلب أن يشرح صدره وحلّ عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه بصورة أكثر تفصيلا إذ قال: (ربّ اشرح لي صدري ويسِّرلي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري واشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً).

فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و(قال كلاّ) فلن يستطيعوا قتلك، أو كلاّ لن يضيق صدرك وينعقد لسانك، وقد أجبنا دعوتك أيضاً في شأن أخيك، فهو مأمور معك في هذه المهمّة: (فاذهبا بآياتنا) لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله.

ولا تظنّا بأنّ الله بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان (إنّا معكم مستمعون)...

فإنا معكما ولن اتتركما أبداً، وسأنصركما في الحوادث الصعبة، فاذهبا مطمئني الخاطر، وامضيا في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة!...

وهكذا فإنّ الله سبحانه أعطى لموسى الإطمئنان الكافي في جمل ثلاث وحقّق له طلبه... إذ طمأنه بقوله: (كلا) على أنّ قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك... ولن تحدث له مشكلة بسبب ضيق صدره أو التلكؤ في لسانهِ وبقوله: (فاذهبا بآياتنا) أرسل أخاه ليعينه على أمره. وبقوله: (إنا معكم مستمعون) وعدهما أنّهما سيكونان أبداً تحت ظل خيمته وحمايته!...

وممّا ينبغي الإلتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله: (إنا معكم) ولعل ذلك إشارة إلى أن الله حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع المحاورات، ويسمع ما يدور بينهم جميعاً، فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة!...

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أن كلمة "مع" دالة على النصرة والحماية فلا تشمل قوم فرعون، غير سديد، بل إن "مع" تعني حُضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى مع المذنبين، حتى مع المذنبين، وحتى مع الموجودات التي لا روح فيها، فهو في كل مكان ولا يخلو منه مكان.

والتعبير بـ "مستمعون"، أي الإصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضاً.


1- النمل، 29.