الآيات 7 - 9

﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاَْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج كَرِيم(7) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنينَ(8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)﴾

التّفسير

الزوجية في النباتات:

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد) ، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل الله في خلقِه وما أوجده سبحانه، فالكفار لم يَصمّوا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث النّبي وكلماته فحسب، بل كانوا يحرمون أعينهم رؤية دلائل الحق المنتشرة حولهم.

فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم).(1)

والتعبير بـ "زوج" في شأن النباتات يستحق الدقّة... فبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين قالوا بأن الزوج يعني النوع أو الصنف، وأن الأزواج معناها الأصناف والانواع، إلاّ أنّه ما يمنع أن نفسر معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الإشارة إلى الزوجيّة في النباتات؟!

كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان (ذكر وأُنثى) وكانوا يستعينون بتلقيح النباتات لتثمر ... وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تماماً في النخيل...

إلاّ أنّ العالم السويدي والخبير بعلم النبات "لينه" وُفّق لأول مرّة في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي لاكتشاف هذه الحقيقة، وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريباً، والنباتات كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لأنثاه ثمّ تقذف بالثمار...

غير أنّ القرآن المجيد أشارَ إلى هذه الظاهرة "الزوجية في النبات" في آيات مختلفة مراراً قبل هذا العالم السويدي بقرون، كما هي الحال في الآيات محل البحث. وفي الآية الرّابعة من سورة الرعد، والآية العاشرة من سورة لقمان، والآية السابعة من سورة ق. وهذه الإشارة بنفسها إحدى معاجز القرآن العلمية!

وكلمة "كريم" في الأصل تعني كل شيء قيّم وثمين، فقد تستعمل في الإنسان، وقد تستعمل في النبات، وقد تستعمل في الكتاب أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين أيضاً... كما هي الحال في شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت: (إنّي أُلقي إليّ كتاب كريم).(2)

والمراد من (كم أنبتنا فيها من كلّ زوج كريم) هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة، وطبعاً ما من نبات إلاّ وله فائدة أو فوائد جمّة، ومع تقدم العلم تتجلى هذه الحقيقة يوماً بعد يوم.

وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدةً بصراحة: (إنّ في ذلك لآية).

أجل إن الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذا التراب الذي لا قيمة له ظاهراً، بما فيه من تركيب معين هو مبدأ ظهور أنواع الأزهار الجميلة، والأشجار المثمرة الظليلة، والفواكه ذات الألوان الزاهية، وما فيها من خواص مختلفة. وهو - أي التراب - يبيّن منتهى قدرة الله، إلاّ أن أُولئك الذين طُبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل!

لذلك فإنّ الآية هذه تعقّبُ قائلة: (وما كان أكثرهم مؤمنين).

أي إنّ عدم الإيمان لدى أُولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات، لأنّ قابليّة المحل من شرائط التأثير الأصيلة أيضاً كما نقرأ قوله تعالى: (هُدى للمتقين).(3)

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدلُّ على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب، فيقول سبحانه: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم)...

"العزيز" معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يُقهر، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى، كما أنه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم.. إلاّ أنّه مع كل ذلك رحيم، ورحمته وسعت كل شيء، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب، فيعفو عنه بلطفه ورحمته!

ولعل تقديم كلمة "العزيز" على "الرحيم" لأنّه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لأشعرت الإحساس بالضعف، إلاّ أنّه قدم سبحانه الوصف بالعزيز ليُعلم أنّه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة واسعة!


1- الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.

2- تفسير الميزان، ونور الثقلين ذيل الآيات محل البحث.

3- يتعدي الفعل "يرى" عادة إلى المفعول بدون حرف الجر (إلى) وقد تتعدى إلى المفعولين، وإنّما تعدت هنا بحرف الجر (إلى) لأنّ المراد منها النظر العميق الدقيق لا الرؤية السطحية...