الآيات 1 - 6

﴿طـسـم(1) تِلْكَ ءَايـتُ الْكِتَـبِ المُبِينِ(2) لَعَلَّكَ بَـخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَـقُهُمْ لَهَا خَـضِعِينَ(4) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْر مِّنَ الرَّحْمَـنِ مُحْدَث إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5) فَقَدْ كَذَّبوُاْ فَسَيأْتِيهِمْ أَنبَـؤُاْ مَا كَانوُاْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(6)﴾

التّفسير

إنهم يُعرضون عن كل جديد!

مرّةً أُخرى نواجه في بداية هذه السورة مثلا آخر من الحروف المقطعة وهو: (طَسَمَ).

وكان لنا في تفسير هذه الحروف المقطعة بحوث مُسهَبة ومستقلّة في مستهل سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة الأعراف! فلا نرى حاجةً إلى التكرار والإعادة!

إلاّ أنّ ما ينبغي أن نضيفه هنا هو ما ورد من روايات متعددة عن النّبي(ص) أو بعض أصحابه في تفسير "طسم" ويدلّ جميعُها على أنّ هذه الحروف علامات "مختصرة" عن أسماء الله تعالى، أو أسماء القرآن، أو الأمكنة المقدسة، أو بعض أشجار الجنّة!...

وهذه الرّوايات تؤيد التّفسير الذي نقلناه في مستهلّ سورة الأعراف في هذا الصدد، كما أنّها في الوقت ذاته لا تنافي ما قلناه في مستهل سورة البقرة من أن المراد من هذه الحروف بيان أعجاز القرآن وعظمته، حيث أن هذا الكلام العظيم مؤلف من حروف بسيطة وصغيرة!

والآية التالية تبيّن عظمة القرآن بهذا النحو: (تلك آيات الكتاب المبين).

وبالطبع فإنّ "تلك" في لغة العرب اسم إشارة للبعيد، ويشار بها للمؤنث "المفرد" و"الجمع"; كما قد يشار بها لجمع التكسير.(1)

وكما بيّنا آنفاً فقد يعبّر في لغة العرب عن عظمة الشيء - وإن كان قريباً - باسم الإشارة (للبعيد) فكان الموضوع لأهميّتهِ وارتفاع "وعلوّ" مرتبته بعيد عنّا، ومكانه في السماوات العُلى!

وممّا ينبغي الإلتفات إليه وملاحظته أنّ هذه الآية بنصّها وردت في بداية سورة يوسف وسورة القصص - أيضاً - دون زيادة أو نقصان. كما أنّها وردت بعد الحروف المقطعة في مستهلّ السور آنفة الذكر، وهي تدل على ارتباط هذه الحروف بعظمة القرآن.

ووصفُ القرآن بـ "المبين" المشتق من "البيان"، هو إشارة إلى كونه جليّاً بيّناً عظيماً معجزاً - فكلّما أمعن الإنسان النظر في محتواه تعرّف على إعجازه أكثر فأكثر... ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يبيّن الحق ويميزه عن الباطل، ويوضّح سبيل السعادة والنصر والنجاة من الضلال!

والآية التالية تُسرّي عن قلب النّبي وتثبته فتقول: (لعلك باخعٌ نفسَك أن لا يكونوا مؤمنين).

كلمة "باخع" مشتقّة من (البَخْع) (على وزن الدَّمع)! ومعناه إهلاك النفس من شدة الغمّ... وهذا التعبير يدلّ على مدى تحرّق قلب النّبي وشفقته لأُمته، وأداء رسالته، وما كان عليه من إصرار في خِطته، وتجلّد في مواجهة شدته ومحنته، لأنّه يرى القلوب المتعطشة الظامئة في جوار النبع القرآني الزلال، ولكنّها لا تزال على ظمئها ولا ترتوي من معينه العذب، فكان يتحرق لذلك!

كان قلقاً - وباخعاً نفسه - أن يرى الإنسان الذي منحه الله العقل واللبّ يسير في الطريق المظالم، بالرغم من كل هذا الضياء، ويهوي في الوادي السحيق ليكون من الهالكين!

أجل، كان جميع الأنبياء على هذه الشاكلة من الإشفاق على أُممهم ولا سيما الرّسول الأعظم(ص) الذي ورد في شأنه هذا التعبير القرآني أكثر من مرّة...

قال بعض المفسّرين: إن سبب نزول الآية الأنفة الذكر هو أن النّبي(ص) كان يدعو أهل مكّة إلى توحيد الله باستمرار، إلاّ أنّهم لم يؤمنوا. فأسف النّبي وتأثر تأثراً بالغاً حتى بدت أماراته في وجهه، فنزلت الآية آنفة الذكر لتسرّي عن قلب النّبي(ص).(2)

ولبيان أنّ الله على كل شيء قدير حتى أنّه يستطيع أن يسوقهم إلى الإيمان به سوقاً ويضطرّهم إلى ذلك، فإنّ الآية التالية تقول: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين).

وهي إشارة إلى أن الله قادر على إنزال معجزة مذهلة - من السماء - أو أن يرسل عليهم عذاباً شديداً فيذعنوا له، يطأطئوا برؤوسهم خضوعاً له، يستسلموا الأمره وحكمه، إلاّ أن الإيمان بإكراه لا قيمة له. فالمهم أن يخضعوا للحق عن إرادة ووعي وإدراك وتفكر.

ومن الواضح أنّ المراد بخضوع الأعناق خضوع أصحابها... فاللغة العربية تذكر الرقبة أو العنق كناية عن الإنسان لأنّها جزء مهمٌّ منه، ويقال مثلا كناية عن البغاة القساة: غلاظ الرقاب، وعن المضطهدين والضعفاء: الرقاب الذليلة!

وبالطبع فهناك احتمالات أُخرَ لتفسير "أعناقهم" من جملتها أنّ الأعناق تعني الرؤساء، كما أن من التفاسير أن الأعناق تعني طوائف من الناس. وجميع هذه الإحتمالات ضعيفة.

ثمّ يتحدث القرآن عن مواقف المشركين والكفار من آيات القرآن فيقول: (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين).

والتعبير بـ "ذكر" هو إشارة إلى أن القرآن موقظ ومنبّه، وهذا الأمر متحقّق في جميع آياته وسوره! إلاّ أن هذه الجماعة معرضة عن ذكره وتنبيهه، فهي تفرّ عن كل ذلك!...

والتعبير بـ "الرحمن" إشارة إلى أن نزول هذه الآيات من قبل الله إنّما هو من رحمته العامّة، إذ تدعو جميع الناس دون استثناء إلى السعادة والكمال!

كما أن هذا التعبير - أيضاً - ربّما كان لتحريك الإحساس بالشكر لله، فهذا الذكر من الله الذي عمّت نعمه وجودكم من القرن إلى القدم، فكيف يمكن الإعراض عن ولي النعمة؟! وإذا كان سبحانه لا يتعجل بإنزال العذاب عليكم، فذلك من رحمته أيضاً...

والتعبير بـ "محدث" - أي جديد - إشارة إلى أن آيات القرآن تنزل واحدةً تلو الأُخرى، وكلُّ منها ذو محتوى جديد، ولكن ما جدوى ذلك، فهم مع كل هذه الحقائق الجديدة - معرضون... فكأنّهم اتّفقوا على خرافات السلف وتعلّقوا بها - فهم لا يرضون أن يودّعوا ضلالهم وجهلهم وخرافاتهم!! فأساساً مهما كان الجديد موجباً للهداية، فإنّ الجهلة والمتعصبين يخالفون الحق ولا يذعنون له...

ونقرأ في سورة "المؤمنون" الآية 68 منه إذ تقول: (أفلم يدبّروا القول أم جاءهم مالم يأتِ آباءهم الأولين) فبذريعة مالم يأت آباءهم تجدهم متعصبين مخالفين!

ثمّ يضيف القرآن: أنّ هؤلاء لا يقفون عند حدود الإعراض، بل يتجاوزون إلى مرحلة التكذيب، بل إلى أشدّ منه ليصلوا إلى الإستهزاء به، فيقول: (فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباؤا ما كانوا به يستهزئون).

"الأنباء": جمع "انبأ"، أي الخبر المهمّ، والمراد من هذه الكلمة ما سيصيبهم من العقاب الشديد الدنيوي والأخروي. على أنّ بعض المفسّرين كالشيخ الطوسي في "التبيان"، قال بأن هذا العقاب منحصر العقاب الآخرة. إلاّ أن أغلب المفسّرين يعتقدون بشموله لعقاب الدارين، وهو - في الواقع - كذلك!... لأنّ الآية مُطْلَقَةٌ.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ للكفر والإِنكار انعكاسات واسعة وشاملة في جميع حياة الإنسان... فكيف يمكن السكوت عنها!

والتحقيق في هذه الآية والآية السابقة يكشف أن الإنسان حين ينحرف عن الجادة المستقيمة فإنّه يفصل نفسه عن الحق - بشكل مستمر - .

ففي المرحلة الأُولى يعرض عن الحق ويصرف بوجهه عنه... ثمّ بالتدريج يبلغ مرحلة الإنكار والتكذيب.. ثمّ يتجاوز هذه المرحلة إلى السخرية والإستهزاء... ونتيجةً لذلك ينال عقاب الله وجزاءه "وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيتين 4 و 5 من سورة الأنعام".

ملاحظتان

1 - ورد في بعض خُطب أمير المؤمنين "في نهج البلاغة" المعروفة بالخطبة القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن الله أرسل الأنبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن الناس بدعوتهم إلى الله دون إكراه، بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان الإيمان إجبارياً، إذ يقول: "ولوْ أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل... ولو فعل لسقط البلاءُ وبطل الجزاء..."(3).

وورد في كتاب الكافي ذيل الآية محل البحث "لو أنزل الله من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين".(4)

وممّا يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالإرشاد للشيخ المفيد، وروضة الكافي، وكمال الدين للشيخ الصدوق، وتفسير القمي، أن الإمام الصادق(ع) قال في تفسير الآية: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية...) قال: "تخضع رقابهم - يعني بني أمية - وهي الصيحة في السماء باسم صاحب الأمر - صلوات الله عليه ـ".(5)

وواضح أنّ المراد من هذه الرّوايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للآية، إذ ستخضع أخيراً جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني أمية، وذلك عندما يظهر المصلح المهدي(ع) إمامُ الحكومة العالمية، فتستسلم إذعاناً لقدرته وحماية الله له وتنحني له إجلالا.

2 - أحد البحوث التي كثر الكلام فيها والتعليق عليها في القرون الأُولى - أو الصدر الأوّل - للإسلام هو البحث أو الكلام عن كون كلام الله قديماً أو حادثاً؟! وقد انجرّ هذا الكلام إلى كتب التّفسير أيضاً، وقد استدل جماعة من المفسّرين بالتعبير الوارد في الآية آنفاً "محدث" على كون القرآن حادثاً.

إلاّ أنّه - كما أشرنا من قبل أيضاً - فإنّ أساس هذا البحث لا يمكن أن يكون منطقيّاً بأيِّ وجه، ويبدو أنّ ذوي السلطة أو أولي الأمر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس، كان لهم الأثر الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهمّة والجديّة، وليشغلوا علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظاً على حكومتهم وسلطتهم.

لأنّه إذا كان المراد من كلام الله هو محتوى القرآن، فهو من الأزل في علم الله والله خبير بكل ما فيه، وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه، فذلك حادث قطعاً ولا خلاف فيه.

فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو، وأُخرى هو حادث قطعاً بهذه الصورة، فعلى المجتمع الإسلامي أن يكون فطناً ولا سيما العلماء، فلا يُبتلوا بالبحوث المضلة الإنحرافية المبتدعة من قِبَلِ الجبابرة وأعداء الإسلام.


1- المصدر السابق.

2- تفسير "مجمع البيان" وتفسير "الفخر الرازي" وتفسير "القرطبي" وتفسير "التبيان"، واستثنى في تفسير "روح المعاني" خمس آيات. لكن بعض المفسّرين مثل العلاّمة الطباطبائي في "الميزان" لم يقبل استثناء هذه الآيات. وسوف يكون لنا بحث أكثر إن شاء الله في ذيل هذه الآيات.

3- كقوله تعالى (وتلك الأيّام نداولها بين الناس).

4- تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 8 ذيل الآية محل البحث.

5- راجع نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، رقم 192 "تواضع الأنبياء".