الآيات 60 - 62

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَـنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً(60) تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِرجاً وَقَمَراً مُّنِيراً(61) وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أرَادَ شُكُوراً(62)﴾

التّفسير

البروج السماوية:

كان الكلام في الآيات الماضية عن عظمة وقدرة الله، وعن رحمته أيضاً، ويضيف الله تعالى في الآية الأُولى هنا: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن).

نحن لا نعرف "الرحمن" أصلا، وهذه الكلمة ليس لها مفهوم واضح عندنا، (أنسجد لما تأمُرنا) نحن لا نخضع لأي أحد، وسوف لن نكون أتباع أمر هذا أو ذاك (وزادهم نفوراً) اي أنّهم يتكلمون بهذا الكلام ويزدادون ابتعاداً ونفوراً عن الحقّ.

لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه، هو ذلك الاسم الممتلىء جاذبية "الرحمن" مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة، بل تلقوها بالسخرية والإستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: (وما الرحمن) كما قال فرعون حيال دعوة موسى(ع): (وما رب العالمين).(1) فهؤلاء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا: "ومن الرحمن" أو "من ربّ العالمين".

ورغم أن بعض المفسّرين يرى أن اسم "الرحمن" لم يكن مأنوساً بين عرب الجاهلية، وحينما سمعوا هذا الوصف من النّبي(ص) طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب واقعاً، حتى كان يقول البعض منهم: "ما نعرف الرحمن إلاّ رجلا باليمامة" (يعنون به مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوّة كذباً، وعرفه وقومه بهذا الاسم "الرحمن").

لكن هذا القول بعيد جدّاً، لأنّ مادة هذا الاسم وصيغته كلاهما عربيان، وكان النّبي(ص) يتلو - دائماً - في بداية السور القرآنية، الآية (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلى هذا فلم يكن هدف أُولئك إلاّ التحجج والسخرية، والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضاً لأنهم يقولون: (أنسجد لما تأمرنا).

وبما أن تعاليم القادة الإلهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط، فإنّ عمي القلوب من المعاندين مضافاً الى عدم انتفاعهم بها، فإنّها تزيدهم نفوراً لأنّ آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان، والشوك في الأرض السبخة، ولذا لا مجال للتعجب حيث يقول: (وزادهم نفوراً).(2)

الآية التالية إجابة على سؤالهم حيث كانوا يقولون: "وما الرحمن"، وإن كانوا يقولون هذا على سبيل السخرية، لكن القرآن يجيبهم إجابة جادة، يقول تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً).

"البروج" جمع "برج" في الأصل بمعنى "الظهور" ولذا يسمون ذلك القسم الأعلى والأظهر من جدار أطراف المدينة أو محل تجمع الفرقة العسكرية "برج"، ولهذا أيضاً يقال حينما تظهر المرأة زينتها "تبرجت المرأة"، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على القصور العالية.

على أية حال، فالبروج السماوية، إشارة إلى الصور الفلكية الخاصّة حيث تستقر الشمس والقمر في كل فصل وكل موضع من السنة إزاء واحد منها، يقولون مثلا: استقرت الشمس في برج "الحمل" يعني أنّها تكون بمحاذاة "الصورة الفلكية"، "الحمل"، أو القمر في "العقرب" يعني وقفت كرة القمر أمام الصورة الفلكية "العقرب" (تطلق الصورة الفلكية على مجموعة من النجوم لها شكل خاص في نظر المشاهد).

بهذا الترتيب، أشارت الآية إلى منازل الشمس والقمر السماوية، وتضيف على أثر ذلك: (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً) (3).

تبيّن هذه الآية النظم الدقيق لسير الشمس والقمر في السماء (و بديهي أن هذه التغييرات في الحقيقة ترتبط بدوران الأرض حول الشمس دائماً). والنظام الفذ الدقيق الذي يحكمهما ملايين السنين بلا زيادة أو نقصان، بالشكل الذي يستطيع الفلكيون - أحياناً - أن يتنبؤا. قبل مئات السنين بوضع حركة الشمس والقمر في يوم معين وساعة معينة بالنسبة إلى مئات السنين الآتية، هذا النظام الحاكم على هذه الأفلاك السماوية العظيمة شاهد ناطق على وجود الخالق المدبر والمدير لعالم الوجود الكبير.

مع هذه الدلائل الواضحة، ومع هذه المنازل البديعة والدقيقة للشمس والقمر، فهل مازلتم تجهلونه وتقولون: "وما الرحمن"!؟

أمّا لماذا سميت الشمس، "سراجاً"، وقُرِنَ القمر بصفة "منير"؟ فمن الممكن أن يكون دليله أن "السراج" بمعنى المنبع الضوئي الذي نوره مستمدٌ من ذاته وهذا ينطبق على حال الشمس، حيث أنّ من المسلمات العلمية طبقاً للتحقيقات أن نورها من نفسها. بخلاف القمر الذي نوره من ضياء الشمس، ولذا وصفه بـ "المنير" الذي يستمد نوره من غيره دائماً، (في التّفسير الأمثل، أوردنا القول مفصلا في هذا الصدد، ذيل الآية 5 و 6 سورة يونس).

في الآية الأخيرة، يواصل القرآن الكريم التعريف بالخالق سبحانه، ويتحدث مرّة أُخرى في قسم آخر من نظام الوجود، فيقول تعالى: (و هو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً).

هذا النظام البديع الحاكم على الليل والنهار، حيث يعقب أحدهما الآخر متناوبين متواصلين على هذا النظم ملايين السنين... النظم الذي لولاه لإنعدمت حياة الإنسان نتيجةً لشدة النور والحرارة أو الظلمة والعتمة، وهذا دليل رائع للذين يريدون أن يعرفوا الله عزَّوجلّ ومن المعلوم أن نشوء نظام "الليل" و "النهار" نتيجة لدوران الأرض حول الشمس، وأن تغيراتهما التدريجية والمنظمة، حيث ينقص من أحدهما ويزاد في الآخر دائماً بسبب ميل محور الأرض عن مدارها ممّا يؤدي لوجود الفصول الأربعة.

فإذا دارت كرتنا الأرضية في حركتها الدورانية أسرع أو أبطأ من دورانها الفعلي ففي احدى الصور تطول الليالي الى درجة أنّها تجمد كل شيء، ويطول النهار الى درجة أنّ الشمس تحرق كل شيء ... وفي صورة اخرى فإنّ الفاصلة القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما. فضلا عن أنّ القوّة المركزية الطاردة كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجودات الأرضية بعيداً عن الكرة الأرضية.

والخلاصة أنّ التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة الله في الإنسان من جهة (ولعل التعبير بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة) ، ومن جهة أُخرى يُحي روح الشكر فيه، وقد أُشير إلى ذلك بقوله تعالى: (أو أراد شكوراً).

الجدير بالذكر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات التي نقلت عن النّبي(ص) أو الأئمّة المعصومين في تفسير الآية، أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن الإنسان إذا أهمل اداء واجب من واجباته تجاه الله سبحانه وتعالى فإنّه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الآخر منهما. هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيراً ثانياً للآية، وممّا سبق من كون الآيات القرآنية ذات بطون، فلا منافاة بين هذا المعنى والمعنى الأوّل أيضاً.

وفي ذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: "كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال الله تبارك وتعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار، وما فاته بالنهار بالليل".(4)

نفس هذا المعنى نقله "الفخر الرازي" عن النّبي الأكرم(ص).


1- طبقاً لهذا التّفسير فـ "الباء" في "به" زائدة، أمّا طبقاً للتفاسير الأُخرى، فإن "الباء" بمعنى "عن".

2- من أجل توضيح أكثر في هذا الصدد، راجع التّفسير الأمثل (ذيل الآية 31 سورة آل عمران).

3- سورة الشعراء، الآية 23.

4- على هذا فإنّ فاعل (زاد) هو ذلك الأمر بالسجود الذي ترك أثراً معكوساً في أولئك المرضى قلوبهم، وإن نقل بعض المفسّرين أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سجد بعد هذا الكلام وسجد المؤمنون أيضاً، فسبّب هذا ابتعاد أُولئك أكثر، بناء على هذا ففاعل (زاد) السجدة، لكن المعنى الأوّل أكثر صحّة.