الآيات 51 - 54
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُؤلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(51) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ (52) وَأقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ(53) قُلْ أطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبَلَـغُ الْمُبِينُ(54)﴾
التّفسير
الإيمان والتسليم التام إزاء الحقّ:
لاحظنا في الآيات السابقة ردّ فعل المنافقين، الذين اسودّتْ قلوبهم، وأصبحت ظلمات في ظلمات. وكيف لم يرضخوا لحكم الله ورسوله(ص) ، وكأنَّهُم يَخَافُونَ أن يحيف الله ورسوله عليهم، فيضيع حقّهم!
أمّا الآيات - موضع البحث - فإنّها تشرح موقف المؤمنين إزاء حكم الله ورسوله، فتقول (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا).
ما أجمل هذا التعبير المختصر والمفيد (سمعنا وأطعنا)!
وقد وردتْ كلمة "إنّما" في الآية السابقة لتحصر كلام المؤمنين في عبارة (سمعنا وأطعنا) والواقع أن حقيقة الايمان يكمن في هاتين الكلمتين فقط.
كيف يمكن أن يرجّح شخص حكم شخص آخر على حكم الله، وهو يعتقد بأنّ الله عالم بكلّ شيء، ولا حاجة له بأحد، وهو الرحمن الرحيم؟ وكيف له أن يقوم بعمل إزاء حكم الله إلاّ السمع والطاعة؟
فما أحسن هذه الوسيلة لامتحان المؤمنين الحقيقيين ونجاحهم في الإمتحان؟! لهذا تختتم الآية حديثها بالقول: (وأُولئك هم المفلحون) ولا شك في أنّ الفلاح نصيبُ الذي يسلّم أمرَه إلى الله، ويعتقد بعدله وحُكمِه في حياته المادية والمعنوية.
وتابعت الآية الثّانية هذه الحقيقة بشكل أكثر عمومية، فتقول: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأُولئك هم الفائزون) (1).
وقد وصفت هذه الآية المطيعين المتقين بالفائزين، كما وصفت الآيةُ السابقة الذين يرضخون لحكم الله ورسوله بالمفلحين.
وتُفيد مصادر اللغة أنَّ "الفوز" و"الفلاح" بمعنىً واحد تقريباً، قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: "الفوز: الظفر بالخير مع حصول السلامة" و"الفلاح: الظفر وادراك البغية" (وفي الأصل بمعنى الشق، وبما أنّ الاشخاص المفلحين يشقون طريقهم إلى مقصدهم ويزيلون العقبات منه أطلق الفلاح على الفوز أيضاً) وبما أن الكلام في الآية السابقة كان عن الطاعة بشكل مطلق، وفي الآية قبلها عن التسليم أمام حكم الله، وأحدهما عام والآخر خاص، فنتيجة كليهما واحدة.
و ما يستحقُّ الملاحظة هو أن الآية الأخيرة ذكرت ثلاثةَ أوصاف للفائزين: هي: طاعة الله والرّسول، وخشية الله، وتقوى الله.
وقال بعض المفسّرين: إنّ الطاعة ذات معنىً عام، والخشية فرعها الباطني، والتقوى فرعها الظاهري. وقد تحدثت أوّلا عن الطاعةِ بشكل عامّ، ثمّ عن باطنها وظاهرها.
ورُوي عن الإمام الباقر(ع) في تفسير قوله تعالى: (أُولئك هم المفلحون) قال: "إنَّ المعني بالآية أميرالمؤمنين (علي (ع)) "(2).
ولا خلاف في أنَّ علياً(ع) خير مصداق لهذه الآية، وهذا هو المراد من هذا الحديث فلا يفقد الآية عموميتها.
لحن الآية التالية - وكذلك سبب نزولها الذي ذكرته بعض التفاسير - يعني أنّ بعض المنافقين تأثروا جداً على ما هم فيه، بعد نزول الآيات السابقة والتي وجّهت اللوم الشديد إليهم، فجاءوا إلى النّبي(ص) وأقسموا يميناً مغلظة أنّنا نسلّم أمرنا إليك، ولهذا أجابَهُم القرآن بشكل حاسم (وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) إلى ميدان الجهاد، أو يخرجوا من أموالهم وبيوتهم فقل لهم: لا حاجة إلى القسم، وعليكم عملا اطاعة الله بصدق واخلاص(قل لا تقسموا طاعة معروفة إنّ الله خبير بما تعملون).
يرى كثير من المفسّرين أنّ كلمة "ليخرجن" في هذه الآية يقصد منها الخروج للجهاد في سبيل الله، غير أنّ مفسّرين آخرين يرون أنّها تقصد عدم التهالك على المال والحياة، وأتباع الرّسول(ص) أينما رحل وحَلّ وطاعته.
وقد وردت كلمة "الخروج" ومشتقاتها في القرآن المجيد بمعنى الخروج إلى ميادين الجهاد تارة، وتركِ المنزل والأهل والوطن في سبيل الله تعالى تارة أخرى، إلاّ أنّ الآيات السابقة التي تحدثت عن حكم الرّسول(ص) في القضايا المختلفة يجعلنا نتقبل التّفسير الثّاني. بمعنى أن المنافقين جاءوا إلى النبي(ص) ليعربوا عن طاعتهم لحكمُه(ص) والتسليم له، فأقسموا على اخراج قسم من أموالهم، بل أن يتركوا الحياة الدنيا إن أمرهم بذلك.
ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين، أي إنّهم كانوا على استعدادهم لترك أموالهم وأهليهم، والخروج للجهاد ولتضحية في سبيل الله.
ولكن بما أنّ المنافقين يتقلبون في مواقفهم بحسب الظروف السائدة في المجتمع، فتراهم يقسمون الأيمان المغلَّظة حتى تشعُرَ بأنّهم كاذبون، فقد رَدَّ القرآن - بصراحة - أنّه لا حاجة إلى اليمين، وإنّما لا بُدّ من البرهنة على صدق الإدعاء بالعمل، لأنّ الله خبير بما تعملون. يعلم هل تكذبون في يمينكم، أم تبغون تعديل مواضعكم واقعاً؟
لهذا أكدت الآية التالية - التي هي آخر الآيات موضع البحث - هذا المعنى، وتقول للرسول(ص) أن: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول).
ثمّ تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين: (فإن تولوا فإنّما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنّكم مسؤولون عن أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة، ولكن (وإن تطيعوه تهتدوا) لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل الله والحقّ والصواب.
في كل الأحوال (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين) وإنّه(ص) مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر الله به، فإن أطاعوه استفادوا، وإنْ لم يُطيعوه خَسروا. وَلَيْسَ على النّبي أن يجبر الناس على الهداية وتقبّل دعوته.
وما يلفت النظر في الآية السابقة تعبيرها عن المسؤولية بـ "الحملِ" الثقيل وهذا هو الواقع، فرسالة النّبي(ص) تستوجب الإبلاغ عليه(ص) وعلى الناس طاعته. إنّها لمسؤوليةٌ لا يطيق حملها إلاّ المخلصون.
ولذا روى الإمام الباقر(ع) حديثاً عن النّبي(ص) قال فيه "يا معشر قرّاءِ القرآن، اتقوا الله عزَّوجلّ فيما حملكم من كتابه، فإنّي مسؤول، وأنتم مسؤولون: إنّي مسؤول عن تبليغ الرسالة، وأمّا أنتم فتسألون عما حُمِلْتُم من كتاب الله وسنّتي"(3).
1- النساء، 65. .
2- أصل "يتقه" بسكون القاف وكسر الهاء "يتقيه" وقد حذفت الياء منها لأنّها في حالة جزم وقد حذفت إحدى الكسرتين المتاليتين لأنّها ثقيلة للفظ.
3- تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، صفحة 616.