الآيات 21 - 26
﴿يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً وَلَـكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوآ أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـكِينَ وَالْمُهَـجِرينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الُْمحْصَنَـتِ الْغَـفِلَـتِ الْمُؤْمَنَـتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبينُ(25) الْخَبِيثَـتُ لِلْخَبِيثينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـتِ وَالطَّيِّبَـتُ لِلطَّيِّبينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـتِ أُوْلَئكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ(26)﴾
التّفسير
للعقوبات حساب!
على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة، إلاّ إنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية التي تبدو أوّلا في صورة باهتة، فلابدّ من الإنتباه إليها، وإلاّ فالنتيجة سيئة للغاية، ولا يمكن تلافيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعةِ الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوّة حاسمة، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.
وتخاطب الآية الأُولى المؤمنين، فتقول (يا أيّها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر) (1).
وإذا فسّرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخرّب، يتّضح لنا شمولية هذا التحذير لأبعادِ حياتنا كلها، وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد أُخرى في طريق الفساد:
الخطوة الأُولى: مرافقة الملوثين والمنحرفين.
الخطوة الثّانية: المشاركة في مجالسهم.
الخطوة الثّالثة: التفكير بارتكاب الذنوب.
الخطوة الرّابعة: ارتكاب الأعمال المشتبه بها.
الخطوة الخامسة: إرتكاب الذنوب الصغيرة.
وأخيراً الإبتلاء بالكبائر. وكأنّ الإنسان في هذه المرحلة يسلّم نفسه لمجرم ليقوده نحو الهاوية، أجل هذه (خطوات الشيطان) (2).
ثمّ تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منَّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء والله سميع عليم).
ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والإنحراف من الذنوب جميعاً، فالله منحه العَقْلَ، ولطف به فأرسل إليهِ الرُّسُلَ، وَيسَّرَ له سُبُلَ الإِرتقاء والإهتداء، وأعانَهُ على استكمالِ الخَيْرِ. وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة، وإمداداته التي يستحقونها، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.
وكما أسلفنا. مراراً، فإنّ عبارة "من يشاء" لا تعني المشيئة دون مبرّر، بل إنّ الله يهدي عباده الذين يسعون في نيلها، الذين يسيرون في الطريق إلى الله، ويجاهدون في سبيله، فيمسك الله بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف الأسمى.
وبعبارة أُخرى: إنَّ الفضل والرحمة الإلهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل ع والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية. وأُخرى يتخذ الفضل والرحمة الإِلهية جانباً تكوينياً عن طريق الإِمدادات المعنوية الإِلهية.
والآيات موضع البحث استهدفت القسم الثّاني، بدليل عبارة "من يشاء"، ويجب الإنتباه إلى أن "الزكاة" و "التزكية" تعني في الأصل النمو، والعمل من أجل النمو، إلاّ أنها وردتْ غالباً بمعنى التطهُّر والتطهير.
ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد، إذ أنّ النمو والرشد لا يمكن أن يتحققا إلاّ بزوالِ الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل.
وذكر عدد من المفسّرين سبباً لنزول الآية الثّانية - من الآيات موضع البحث - يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس، وألا يشاركوهم همومَهم، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رَدَّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.
وقد روى سبب النّزول هذا "القرطبي" في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك، ورواه المرحوم "الطبرسي" عن ابن عبّاس، ورواهُ آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث، وهو يمتاز بعموميته.
إلاّ أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يُصرُّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص "أبي بكر" حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ "مسطح بن أثاثة" الذي كان ابن خالته، أو ابن أخته، وهو الذين نشر شائعة الإفك، في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية، جاءت بصيغة الجمع، وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قراراً بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين، إلاّ أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل.
ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فهي توصي المسلمين جميعاً بألاّ يستسلموا لعواطفهم، وألاّ يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاءِ الآخرين.
نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا: يقول القرآن (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله).
إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون، ولم يُجز الله طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.
كلمة "يأتل" مشتقّة من "أليّة" (على وزن عطيّة) أي اليمين، أو إنّها مشتقة من "ألُو" (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.
وعلى هذا، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات(3) ، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.
ثمّ تضيف الآية (وليعفوا وليصفحوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).
فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (والله غفور رحيم).
والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة، إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.
ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله "الغفور" و"الرحيم".
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم.
ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون.
ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.
وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحدُّ المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم "قوة الدفع". وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنها تكشف عن "قوة الجذب"!
ثمّ تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم).
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: "المحصنات" أي العفيفات الطاهرات الذيل و"الغافلات" البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و"المؤمنات"، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل(4).
كما أنّ عبارة - "غافلات" تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.
ويحتمل أن يكون المراد من "الغافلات" أنهن لا يعلمن بما ينسب اليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهنّ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلاّ أنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحدّ الشرعي: فتقول الآية: أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائماً، لأنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.
إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك، وظهورها بمظهر الإرتباط بذلك الحادث، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص، وهي ذات مفهوم عامّ، لا تختص بحالة معينة.
والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسّرين كالفخر الرازي في "التّفسير الكبير"، وآخرين، على أنّ مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النّبي(ص) ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر، ويستدلون بكلمة "اللعن" التي ذكرتها الآية، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة - حتى إن كان هذا الذنب عظيماً كإتهام نساء النّبي(ص) لوحده سبباً للكفر. لهذا لم يعامل النّبي(ص) أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بيّنا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم، فذنبهم لا يُوازي الكفر بالله.
وأمّا "لعنة الله" فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضاً، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدِّثة عن حدّ القذف (في الأحكام الخاصّة باللعان) مرتين كلمة "لعن" ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كراراً كلمة "اللعن" ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث "لعن الله في الخمر عشر طوائف..." معروف.
وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة (ويوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون).
تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق. وعندما يجد المجرمون الدلائل والشواهد العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية، تراهم يُعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلافاً لرغبتهم الباطنية، حيث لا ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم.
وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم وكأنّها شريط مسجّل، تنطق بما اقترف صاحبها من ذنوب، حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.
وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) (5) فإنّه لاخلاف فيها مع هذا البحث، إذ يمكن أن تتعطل الأفواه عن الكلام أولا، فتشهد سائر أعضاء الجسم. وعندها تكشف الأيدي والأرجل الحقائق، ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كلّها.
بحوث
1 - مَن هن الخبيثات ومَن هم الخبيثون؟
ذكر المفسّرون تعاريف مختلفة لـ "الخبيثات" و"الخبيثون" و"الطيبات" و"الطيبون".
1 - قيل أنّ المراد هو الكلام السيء والتهمة والإفتراء والكذب الصادر عن المخطئين والمذنبين من الناس، وعلى العكس من ذلك الكلام الطيّب ما يصدر عن الطيّبين المتطهرين، وحسبما يقول المثل المأثور "ينضح الإناء بما فيه".
2 - وقيل إن كلمة "الخبيثات" تعني "السيئات" وكل الأعمال السيئة وغير المرغوب فيها التي تصدر عن الخبثاء من الناس، وعلى العكس من ذلك "الحسنات" الخاصّة بالطيبين من الناس.
2 - "الخبيثات" و"الخبيثون" تعنيان النساء والرجال الساقطين، وهم عكس (الطيبات) و(الطيبون) الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين.
وظاهر الآية قصد هذا المعنى بذاته، حيث هناك قرائن تؤكّد هذا المعنى:
أ - جاءت هذه الآيات إثر آيات الإفك - وبعد آية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) وهذا التّفسير ينسجم مع مفهوم تلك الآيات.
ب - إن جملة (اُولئك مبرءون ممّا يقولون) التي تقصد الرجال والنساء الطاهرين من الدنس دليل آخر على صحة هذا التّفسير.
ج - قرينة المقابلة لجمع المذكر السالم في "الخبيثون" حيث يقصد بها الرجال الخبيثون، فمن ذلك يعلم أن الخبيثات جمع مؤنث حقيقي، وتعني النساء الساقطات.
د - إضافة إلى ذلك روي حديث عن الإمامين الباقر والصّادق(ع) "إنّ هذه الآية كآية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة) همّ رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله6 مشهورين بالزنا فنهى الله عن أُولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة..".(6) كما نقرأ في روايات كتاب النكاح، كيف كان أصحاب الإِمام يستفسرون منه أحياناً عن الزواج بالخبيثات فيجيبهم سلباً. وهذا يدل على أن الخبيثة تعني المرأة الساقطة، وليس الكلام السيء ولا العمل المنحط(7).
والسؤال الآخر: هل أن خبث هذه المجموعة من النساء والرجال أو طيبهم يرادبه الشرف والعفّة، أو يتعلّق بانحطاط في الفكر أو العمل أو القول؟
إنَّ المفهوم الأوّل للآية هو الأصوب، لأنّه يطابق ما جاء في الآيات والأحاديث، لكنَّ بعضَ الأحاديث يعطي معنىً واسعاً لكلمتي الخبيث والطيب اللتين وردتا في هذه الآيات، ولا يحصرهما بالإِنحطاط الخلقي وطهارة الشخص.
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون مفهوم الآية الأُولى خاصاً بذلك المعنى الخاص، إلاّ أنه بملاحظة الملاك والغاية من الحكم يمكن تعميمه وتوسعته.
وبتعبير آخر: إن الآية السابقة بيان لميل الصنو إلى صنوه، رغم اختصاصها من حيث الموضوع يبحث العفّة والإنحطاط الخلقي، "تأملوا جيداً".
2 - هل هذا حكم تكويني أم تشريعي؟
لا شكّ في أن الأمثال التالية تشير إلى سنة تكوينيّة تطبق على المخلوقات جميعاً، حتى على ذرات الوجود في الأرض والسماء، وهي جذب الشيء لنظيره كما يجذب الكهرب التبن.
أصحاب النور ينجذبون إلى أصحاب النور.
وأصحاب النّار يميلون إلى أصحاب النّار.
و"السنخية علّة الانظمام" كما يقول المثل.
وعلى كل حال، فإن كل صنو يتبع صنوه، وكل مجموعة متجانسة ترتاح لأفرادها، إلاّ أنّ هذه الحقيقة لا تمنع من كون الآية السابقة كما هي عليه الآية (الزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك) إشارة إلى حكم شرعي يمنع الزواج من النساء اللواتي اشتهرن بالعمل المخلّ بالشرف.
أليس لجميع الأحكام التشريعية جذور تكوينية؟
أليس هناك انسجام بين السنن الإِلهية، التشريعية منها والتكوينية؟ (لإيضاح أكثر راجع شرح الآية التي ذكرناها).
3 - جواب استفسار:
الإستفسار هو: إننا نشاهد عبر التاريخ أو في حياتنا حالات لا تنسجم مع القانون السابق؟ ومثال ذلك ما جاء في القرآن المجيد (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وأمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) (8)... ومقابل هذه الحالة ذكر القرآن المجيد زوجة فرعون مثالا للإِيمان والطهارة: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) (9).
كما شوهد نظير هاتين الحالتين في صدر الإسلام، حيث ابتلي بعض قادة المسلمين بنساء سيئات، وآخرون من الله عليهم بنساء مؤمنات جاء ذكرهن في كتب التاريخ الإسلامي.
وفي الجواب عن ذلك نقول أنّه مضافاً إلى أنّ لكل قانون استثناءات، فلابدّ من ذكر مسألتين:
1 - قلنا خلال تفسير الآية موضع البحث: إنَّ القصد من الخبث الإنحطاط الخلقي والسقوط بارتكاب أعمال مخلة بالشرف، والطيب ضد الخبث، وعلى هذا فجوابُ السؤال السابق يكون واضحاً، لأن نساء الأنبياء والأئمة الأطهار(ع). لم ينحرفن والم يخبثن أبداً، وإنّما القصد من الخيانة في قصة نوح ولوط(ع) ، التجسس لمصلحة الكفّار وليس خيانة شرفهما، وأساساً إن هذا العيب من العيوب المنفّرة ونعلم أن المحيط العائلي للأنبياء(ع) يجب أن يكون طاهراً من أمثال هذه العيوب المنفرة للناس حتى لا يتقاطع مع هذف النّبوة في جذب الناس إلى الرسالة الإلهية.
2 - إضافة إلى ذلك، فإنّ نساء الأنبياء والإِئمّة(ع) ، لم يكنّ كافرات منذ البداية، بل يصبن بالضلال أحياناً فيما بعد، ولهذا تستمر علاقة الأنبياء والأولياء بهنّ على ما كانت عليه قبل ضلالهنّ، كما أنّ أمرأة فرعون لم تكن مؤمنة بربّ موسى حين زواجها، إذ أنّ موسى(ع) لم يكن قد ولد بعد، وقد آمنت برسالته السماوية بعد أن بعثه الله، ولم يكن لها مخرج إلاّ بمواصلة حياتها الزوجية والكفاح، حتّى انتهت حياتها باستشهادها.
1- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 348.
2- هناك محذوف لجملة (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء) وهو جواب الشرط وتقديره "ومن يتبع خطوات الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنّه يأمر بهما" (روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 112 تفسير آخر الآيات موضع البحث) ويجب الإِنتباه إلى أن جملة فإنه يأمر بالفحشاء، لا يمكن اعتبارها جواباً للشرط.
3- بحثنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (90) من سورة النحل.
4- في هذه الحالة يجب تقدير وجود حرف "لا" قبل "يؤتوا" فيكون التقدير "ولا يأتل ... أن لا يؤتوا".
5- الميزان، تفسير الآيات موضع البحث، المجلد 15، صفحة 122.
6- سورة يس، الآية 65.
7- مجمع البيان، في تفسير الآيات موضع البحث.
8- وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 337، الباب 14 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
9- سورة التحريم، 10.