الآيات 6 - 10

﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدآءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَـدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّـدِقِينَ (6) وَالْخَـمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَـذِبينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَـذِبينَ(8) وَالْخَـمِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الْصَّـدِقينَ(9) وَلَوْ لاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأنَّ اللهُ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)﴾

سبب النّزول

روى ابن عباس أن سعد بن عبادة (سيد الأنصار) من الخزرج، قال لرسول الله(ص) بحضور جمع من الأصحاب: "يا رسول الله! لو أتيت لكاع (زوجته) وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي باربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة، فقال النّبي(ص).

يا معشر الأنصار ما تَسمعون إلى ما قال سيدكم؟

فقالوا: لا تلمه فإنّه رجل غيور. ما تزوج امرأة إلاّ بكراً، ولا طلّق امرأة له فاجترى رجل منّا أن يتزوجها.

فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمي، والله إنّي لأعرف أنّها من الله، وأنّها حق، ولكن عجبت من ذلك لما اخبرتك.

فقال(ص): فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك.

فقال: صدق الله ورسوله.

فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له، يقال له: هلال بن أُمية قد رأى رجلا مع امرأته ليلا، فجاء شاكياً إلى الرّسول(ص) فقال: إنّي جئت أهلي عِشَاءُ فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بأُذني.

فكره ذلك رسول الله(ص) حتى رؤيت الكراهة في وجهه، فقال هلال: إنّي لأرى الكراهة في وجهك، والله يعلم إنِّي لصادق، وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً.

فهمَّ رسولُ الله بضربه، واجتمعت الأنصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآيات، فقال رسولُ الله(ص): أبشريا هلال، فإنّ الله تعالى قد جعل فرجاً.

فقال: قد كنت أرجوا ذاك من الله تعالى.(1)

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة، وشرحها كما يأتي.

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة!

يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإِستثناء الوارد على حد القذف، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر، وتقبل شهادته لوحدها. ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته. وهنا يقدم القرآن المجيد حلا أمثل هو:

على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم الشهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة "اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا" أربع مرات لإثبات ادعائه من جهة، وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة أُخرى. ويقول في الخامسة: "لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين".

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين، فإمّا أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الأُولى تثبت التهمة.

وفي الثّانية (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين). وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابلُ شهادات الرجل الخمس - أيضاً - لتنفي التهمة عنها. بأن تكرر أربع شهادات "أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا" وفي الخامسة تقول "أن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين".

وهذِهِ الشهاداتُ منهما هي ما يسمّى بـ "اللعان"، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

أوّلها: انفصالهما دون طلاق.

وثانيها: تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.

وثالثها: سقوط حد القذف عن الرجل، وحد الزنا عن المرأة (وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه الشهادات يقام عليه حَدُّ القذف إن كان الرافض الرجل، وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا.

ورابعها: الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أن اللعانَ فضل من الله، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.

فمن جهة لا يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم الشرعي.

ومن جهة أُخرى لا تتعرض المرأة إلى حدّ الزنا الخاص بالمحصنة بمجرّد توجيه التهمة إليها، بل يمنحها الإسلام حق الدفاع عن نفسها.

ومن جهة ثالثة لا يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة، لاثبات هذه التهمة النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية.

ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ولا يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد في المستقبل أبداً، لتعذّر الإستمرارُ في الحياة الزوجيةِ إن كانت التهمة صادقة، كما أن المرأة تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة. وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ولا تقتصر على حياة باردة وخاملة، بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحلٌ بينهما.

ومن جهة خامسة توضح الآية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة.

هذا كله فضل من الله ورحمة منّ بها على عباده. وحل هذه المشكلة بشكل عادلُ يُعبِّرُ عَنْ لطفِ اللهِ بعبادِهِ وَرَحمته لهم. ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أنّه لا يتقاطع مع ضرورة وجود شهود أربعة في هذه القضية. إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك.

ملاحظات

1 - لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟

السّؤال الأوّل الذي يطرح نفسه هنا: ما هي خاصية الزوجين، ليصدر هذا الحكم المستثنى بحقّهما؟

ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الآية، وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر.

كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء الإعتداء على شرفه؟ وإذا توجّه إلى القاضي وهو يصرخ ويستنجد، فقد يواجه حدّ القذف، لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه. وإذا حاول إحضار أربعة شهود، فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه، وقد تنتهي الحادثة ولا يمكنه إحضار شهوده في الوقت المناسب.

ومن جهة أُخرى، فإنّ الغرباء يتّهمون بعضهم بعضاً بسهولة، ولكن الرجل والمرأة نادراً ما يتّهم أحدهما الآخر.

ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين، وإلاّ نُفِّذَ حَدُّ القذف على الذي يوجه تهمة الزنا، وليس الأمر كذلك بالنسبة للزوجين، ولهذا خصّهما الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خاصّة في هذه الحالة.

2 - كيفية اللعان

توصلنا بعد الإِيضاحات التي ذكرناها خلال تفسير هذه الآيات، إلى وجوب تكرار الرجل شهادته أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا، ولينجو من حَدِّ القذف. وبهذا فإن هذه الشهادات الأربع من الزوج بمثابة أربعة شهود، وفي الخامسة يتقبل لعنة الله عليه إن كان كاذباً.

ومع الإلتفات إلى أن تنفيذ هذه الاحكام يتم عادة في محيط اسلامي ملتزم وبيئة متديّنة، ويرى الزوج نفسه مضطراً للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي، ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم لا يقبل الشك والترديد، وفي الخامسة يطلب من الله أن يلعنه إن كان كاذباً، فهذا كله يمنع الرجل من التهوّر وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته.

أمّا المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة، فعليها تكرار شهادتها أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة، لإيجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة، وبما أن التُّهمة موجهة للمرأة، فإنّها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة، حيث تدعو الله أن ينزل غضبه عليها إن كانت كاذبة.

وكما نعلم فإنّ "اللعنة" إبتعاد عن الرحمة.

وأمّا "الغضب" فإنّه أمر أشد من اللعنة، لأنّ الغضب يستلزم العقاب، فهو أكثر من الابتعاد عن الرحمة.

ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد: إنَّ (المغضوب عليهم) هم أسْوَأ من (الضالين) على الرغم من أنّ الضالّين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة الله تعالى.

3 - العقاب المحذوف في الآية:

جاءت الآية الأخيرةُ - ممّا نحن بصدده - جملةً شرطيةً لم يذكر جزاءها حيث تقول: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). لكنّها لم تذكر نتيجة ذلك. وبملاحظة القرائن فيها يتّضح لنا جواب الشرط. والصمت إزاء مسألة ما يكشف عن أهميتها البالغة، ويثير في مخيلة المرء تصورات عديدة لها. وكل تصور منها له مفهوم جديد. فهنا قد يكون جواب الشرط: لو لا فضل الله ورحمته عليكم، لكشف عن أعمالكم وفضحكم.

أو: لولا فضل الله ورحمته عليكم، لعاقبكم فوراً وأهلككم.

أو: لولا هذا الفضل، لما وضع الله سبحانه وتعالى مثل هذه الأحكام الدقيقة من أجل تربيتكم.

وفي الواقع فإن حذف جواب الشرط يثير في فكر القارىء كل هذه الأُمور(2).


1- وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، صفحة (283) (أبواب الشهادات باب 36 الحديث 4).

2- تفاسير مجمع البيان، وفي ظلال القرآن، ونورالثقلين، والميزان، في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض الإختلاف).