الآيات 112 - 116

﴿قَـلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ112 قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْم فَسْئَلِ الْعَادِّينَ113 قَـلَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ114 أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ115 فَتَعَـلَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ116﴾

التّفسير

الدنيا، وعمرها القصير:

بما أنّ الآيات السابقة تناولت جانباً من عذاب أهل النّار الأليم، عقّبت الآيات - موضع البحث - ذلك بذكر نوع آخر من العذاب، هو العذاب النفسي الموجّه من قبل الله تعالى لأهل النّار للإستهانة بهم.

تقول الآية الأُولى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين) يخاطبهم سبحانه وتعالى يوم القيامة قائلا: كم سنة عشتم فوق الأرض؟

كلمة "الأرض" في هذه الآية وكذلك القرائن التي سوف تأتي لاحقاً تدلّ على أنّ السؤال هو عن مقدار عمرهم في الدنيا بالمقارنة مع أيّام الآخرة.

فما ذهب إليه بعض المفسّرين: من أنّ المراد من هذا الإستفسار هو عن السؤال مقدار إنتظارهم في عالم البرزخ، بعيد حسب الظاهر، رغم وجود شواهد قليلة على ذلك في آيات أُخرى(1).

إلاّ أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّاً جدّاً (قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم).

والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لوقارناها بحياة الآخرة، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.

وللتأكيد أو للردّ بدقّة قالوا (فاسأل العادين) أي: ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقّة حين مقارنة بعضها مع بعض، ويمكن أن يكون القصد من كلمة "العادّين" الملائكة الذين يحسبون أعمار الناس وأعمالهم بدقّة، لأنّ هؤلاء يجيدون الحساب أفضل من غيرهم.

وهنا يؤنّبهم الله ويستهزىء بهم (قال إن لبثتم إلاّ قليلا لو أنّكم كنتم تعلمون).

فسوف يدركون يوم القيامة مدى قصر عمر الدنيا المحدود بالنسبة لعمر الآخرة الممدود، فالعمر الأوّل ما هو إلاّ كلمحة بصر.

ولكنّهم كانوا يتصوّرونه خالداً، لأنّ حجب الغفلة وآثارها قد أسدلت على قلوبهم، فحجبتها عن رؤية الحقّ، فاستهانوا بالآخرة وحسبوها وعداً آجلا بعيداً، لهذا قال لهم الله عزّوجلّ: لو أنّكم كنتم تعلمون لأدركتم هذه الحقيقة التي توصّلتم إليها يوم القيامة في دنياكم(2).

وإستعملت الآية اُسلوباً مؤثّراً آخر لإيقاظ هذه الفئة وتعليمها (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون) هذه العبارة الموجزة والعميقة تبيّن واحداً من أقوى الأدلّة على البعث وحساب الأعمال والجزاء، وتعني أنّ الحياة الدنيا تصبح عبثاً إن لم تكن القيامة والمعاد.

فالدنيا بما فيها من مشاكل وما وضع فيها الله من مناهج ومسؤوليات وبرامج، تكون عبثاً وبلا معنى إن كانت لأيّام معدودات فقط، كما سنشرح ذلك في المسائل الآتية.

وبما أنّ عدم عبثيّة الخلق أمر مهمّ يحتاج إلى دليل رصين، أضافت الآية (فتعالى الله الملك الحقّ لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم).

فإنّ الذي يقوم بعمل تافه - في الواقع - هو الجاهل غير الواعي أو الضعيف غير القادر، أو من هو بالذات تافه خاو.

أمّا "الله" الذي جمع الكمال في صفاته.

وهو "الملك" الذي يملك جميع الكائنات ويحكم عليها وهو "الحقّ" الذي لا يصدر منه غير الحقّ، فكيف يخلق الوجود عبثاً بلا غاية.

ولو توهّم أحد الأشخاص بأنّه يمكن أن يوجد من يمنعه من الوصول إلى هدفه، فإنّ عبارة (لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم) تنفي ذلك وتؤكّد ربوبيّته ومفهومها أنّ هذا المالك مصلح وهادف في خلقه للعالم.

وبإختصار نقول: إنّه إضافة إلى ذكر كلمة "الله" التي هي إشارة إلى صفاته الكمالية في ذاته، ذكرت الآية أربع صفات بشكل صريح: مالكية وحاكمية الله، ثمّ حقّانيّة وجوده، وكذلك عدم وجود شريك له، وأخيراً مقام ربوبيّته.

وهذا كلّه دليل على أنّه تعالى لا يقوم بعمل عبثاً، كما أنّه لم يخلق البشر عبثاً.

كلمة "العرش" كما أشرنا سابقاً، هي إشارة إلى أنّ عالم الوجود كلّه الخاضع لحكم الله (لأنّ العرش في اللغة يعني السرير ذي الأرجل العالية والخاصّ بالحكّام، وهذه كناية عن حكم الله المطلق).

وللإطلاع أوسع على معنى العرش في القرآن المجيد يراجع التّفسير الأمثل تفسير الآية 54 من سورة الأعراف.

وسبب توصيف العرش بالكريم، هو أنّ كلمة "الكريم" تعني بالأصل الشريف والمفيد والجيّد، وبما أنّ عرش الله سبحانه وتعالى له هذه الصفات، فقد سمّي بالكريم.

ولابدّ من القول بأنّ صفة الكريم لا تخصّ العاقل فقط، بل تطلق على غيره في اللغة العربية.

كما نشاهد ذلك في سورة الحجّ الآية 50 الخاصّة بالمؤمنين الصالحين (لهم مغفرة ورزق كريم) أي رزق ذو بركة.

وكما يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: الكرم لا يقال إلاّ في المحاسن الكبيرة، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمّل حمالة ترقىء دماء قوم.

بحث

الموت ليس نهاية الحياة:

قلنا: إنّ من بين الأدلّة المطروحة لإثبات المعاد والعالم الآخر هي "مطالعة نظام هذا العالم" أو بتعبير آخر: إنّ دراسة "النشأة الأُولى" شاهد على وجود "النشأة الاُخرى".

ومن الضروري إيضاح ذلك بنحو أوسع هنا.

فمن جهة نرى عالم الوجود بهذه السعة والعظمة والتنظيم المدهش، حتّى إعترف كبار العلماء بأنّ أسرار العالم بقدر يقف الإنسان عاجزاً إزاءها، فإنّ معلوماته مهما كانت لا تشكّل سوى صفحة من كتاب كبير جدّاً.

بل إنّ معلوماتنا عن هذا الوجود ما هي إلاّ "ألفباء" لهذا الكتاب العظيم التأليف والأسرار.

فكلّ واحدة من هذه المجرّات العظيمة تضمّ مليارات من الكواكب، وعدد المجرات والفواصل بينها كبير بدرجة تثير الدهشة حين حساب المسافة بينها بسرعة الضوء، علماً بأنّ سرعة الضوء تبلغ ثلاثمائة ألف كيلومتراً في الثّانية.

والدقّة المستخدمة في بناء أصغر وحدة من هذا العالم هي ذاتها التي إستخدمت في أوسع بناء فيه.

والإنسان - بحسب علمنا - أكمل المخلوقات التي نعرفها في الوجود، وهو أسمى نتاج لهذا العالم، ومن جهة أُخرى يلاقي الآلام والمشاكل الكثيرة خلال عمره القصير حتّى يبلغ أشدّه!! فما يكاد ينهي مرحلة الطفولة بآلامها ومشاكلها ويتنفّس الصعداء منها حتّى يدخل مرحلة الصبا والشباب بتقلبّاتها الشديدة المدمّرة.

وما يكاد يثبت قدميه بعد في هذه المرحلة حتّى تدهمه مرحلة جديدة مفعمة بألوان الأذى وأنواع المصاعب، هي مرحلة الكهولة والشيخوخة، فيتّضح له مدى ضعفه وعجزه.

فهل يصدق أن يكون هدف هذا الكائن العظيم الاُعجوبة في الخلق، الذي يسمّى الإنسان، يأتي هو أن إلى هذا العالم ليقضي عدداً من السنين، وليمرّ بكلّ هذه المراحل بما فيها من آلام ومصاعب، وليأكل مقداراً من الطعام ويلبس لباساً وينام وينهض ثمّ يموت وينتهي كلّ شيء.

وإذا كانت هذه هي الحقيقة، ألا يعني هذا عبثاً؟

أتكون كلّ هذه التشكيلات العظيمة من أجل غاية دنيئة كالأكل والشرب والنوم؟

افرضوا بقاء نوع الإنسان ملايين السنين في هذه الدنيا، وتتعاقب الأجيال، وترتقي العلوم الماديّة فتوفّر أفضل المأكل والملبس والمسكن وأعلى مستوى من الرفاهية للبشر، أتكون تشكيلات الوجود كلّه من أجل هذه المقاصد الدنيا؟

وعلى هذا فإنّ دراسة هذا العالم العظيم لوحده دليل على كونه مقدّمة لعالم أوسع يمتاز بالدوام الخالد، ويعطي الإيمان به حياتنا معناها اللائق بها، ويخلصها من التفاهات.

ولهذا لا نستغرب من تصوّر الفلاسفة الماديّين الذين لا يعتقدون بالقيامة والآخرة أنّ هذا العالم تافه لا هدف له.

ولو كنّا نحن نعتقد بمثل هذا فحسب لأتّجهنا نفس اتّجاههم.

ولهذا نؤكّد أنّه إذا كان الموت نقطة النهاية فخلق الوجود يصبح أمراً تافهاً، لهذا نقرأ في الآية (66) من سورة الواقعة (ولقد علمتم النشأة الأُولى فلولا تذكرون)؟!


1- إنّ هذه الجملة في الحقيقة فيها محذوف تقديره (يقول الله تعالى ألم تكن ...).

2- نقرأ في سورة الروم الآية (55) و56): (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، وهذا يوم البعث ولكنّكم كنتم لا تعلمون) تبيّن هاتان الآيتان أنّ الإستفسار والردّ خاص بالتوقّف في البرزخ، وإذا جعلناه دليلا على الآيات موضع البحث، فمفهومها سيكون أيضاً التوقّف في البرزخ، إلاّ أنّه كما قلنا: إنّ الدلائل الموجودة - في الآيات موضع البحث - مقدّمة عليها، وإنّها تبيّن أنّ الإستفسار وجوابه يخصّ التوقّف في الدنيا.