الآيات 105 - 111

﴿أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ105 قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ106 رَبَّنَا أَخْرِجْنَا منْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـلِمُونَ107 قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ108 إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُم ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ111﴾

التّفسير

لا تكلّمون!

تحدّثت الآيات السابقة عن العذاب الأليم لأهل النّار، وتناولت الآيات - موضع البحث - إستعراض جانب من كلام الله مع أهل النّار، إذ خاطبهم سبحانه وتعالى بعتاب (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذّبون)(1).

ألم اُرسل إليكم آيات وأدلّة واضحة بواسطة رسلي! ألم اُتمّ حجّتي عليكم! ومع كلّ هذا واصلتم تكذيبكم وإنكاركم.

وبملاحظة كون فعلي "تتلى" و "تكذّبون" مضارعان وهما دليل على الإستمرار، فإنّه يتّضح لنا إستمرار تلاوة الآيات الإلهيّة عليهم، وكذلك هم يواصلون التكذيب!

وهم يعترفون في ردّهم (قالوا ربّنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوماً ضالّين).

"الشقوة" و "الشقاوة" نقيض السعادة، وتعني توفّر وسائل العقاب والبلاء.

أو بتعبير آخر: هي الشرّ والبلاء الذي يصيب الإنسان، بينما تعني السعادة توفّر ظروف النعمة والطيب.

والشقاوة والسعادة ليستا إلاّ نتيجة لأعمالنا وأقوالنا ومقاصدنا، والإعتقاد بأنّ السعادة أو الشقاوة ذاتية للإنسان منذ الولادة، ما هو إلاّ تصوّر يذكر لتسويغ الفرار من عبء المسؤولية والإعتذار من الأعمال المخالفة للحقّ، أو هو تفسير لأعمال الجهل.

ولهذا نرى المذنبين أهل النّار يعترفون بصراحة أنّ الله أتمّ عليهم الحجّة، وأنّهم كانوا السبب في تعاسة أنفسهم، لأنّهم قوم ضالّون.

ولعلّهم في إعترافهم هذا يودّون نيل رضى الله ورحمته، لهذا يضيفون مباشرةً (ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون) يقولون ذلك وكأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة دار جزاء، وليست دار عمل، وأنّ العودة إلى الدنيا أمر محال.

لهذا يردّهم الله سبحانه وتعالى بقوّة (قال اخسؤا فيها ولا تكلّمونِ) وعبارة "اخسؤا" التي هي فعل أمر، تستعمل لطرد الكلاب، فمتى ما استخدمت للإنسان فإنّها تعني تحقيره ومعاقبته.

ثمّ يبيّن الله عزّوجلّ دليل ذلك بقوله: هل نسيتم: (إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين).

ولكنّكم كنتم تستهزئون بهم إلى درجة أنّ كثرة الإستهزاء والسخرية منهم أنساكم ذكري:

(فاتّخذتموهم سخرياً حتّى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون) على أعمالهم وعقائدهم وأخلاقهم (إنّي جزيتهم اليوم بما صبروا إنّهم هم الفائزون).

وأمّا أنتم فقد إبتليتم بأسوأ حالة، وبأكثر العذاب ألماً، ولا ينجدكم أحد من مصيركم الذي تستحقّونه.

وبهذا بيّنت الآيات الأربع الأخيرة السبب الرئيسي لتعاسة أهل النّار، وسبب إنتصار وفلاح أهل الجنّة بشكل صريح.

الفئة الضالّة هي التي كانت وراء تعاستها، فقد هانت حتّى لم تخاطب يوم القيامة إلاّ بما يخاطب به الكلب، لاستهزائهم بأهل الحقّ والإستهانة بمعتقداتهم السامية، فما أجدر المستهزئين بالمؤمنين بهذا المصير!

وأمّا الفئة الصالحة فقد نالت خير جزاء من الله بصبرها وإستقامتها في مواجهة العدو المعاند المغرور المتعنّت، ومواصلتهم الطريق إلى الله بإخلاص.


1- بحر المحبّة - للغزالي، صفحة 41 إلى 44 (مع التلخيص).