الآيات 101 - 104

﴿فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ101 فَمَن ثَقُلَتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ102 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَزِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـلِدُونَ103 تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـلِحُونَ104﴾

التّفسير

جانب من عقاب المسيئين:

تحدّثت الآيات السابقة عن عالم البرزخ، وأعقبتها آيات تناولت القيامة بالبحث، وتناولت كذلك جانباً من وضع المذنبين في عالم الآخرة.

فهي تقول أوّلا: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)من المعلوم - بالإستناد إلى آيات القرآن الكريم - أنّ النفخ في الصور يجري مرّتين.

أُولاهما في نهاية هذا العالم، حيث يموت مَن في الأرض والسماوات.

وفي ثانيتهما يبدأ بعث من في القبور، ليعودوا لحياة جديدة، وليستعدّوا للحساب والجزاء.

"النفخ في الصور" يعني النفخ في البوق، إلاّ أنّ هذه العبارة لها مفهوم خاصّ سنبيّنه إن شاء الله في شرح الآية 68 من سورة الزمر.

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية السابقة أشارت إلى ظاهرتين من ظواهر يوم القيامة:

اُولاهما: إنتهاء مسألة النسب، لأنّ رابطة الاُسرة والقبيلة التي تسود حياة الناس في هذا العالم تؤدّي في كثير من الحالات إلى نجاة المذنبين من العقاب، إذ يستنجدون بأقربائهم في حلّ مشاكلهم.

أمّا الوضع يوم القيامة فيختلف، حيث كلّ إنسان وعمله، فلا معين له، ولا نفع في ولده، أو أخيه، أو والده.

وثانيتهما: سيطرة الخوف على الجميع، فلا يسأل أحد عن حال غيره بسبب الخوف الشديد من العقاب الإلهي، هو يوم كما اطّلعنا عليه في مطلع سورة الحجّ: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) كما يحتمل أن تقصد عبارة (ولا يتساءلون) عدم طلب أحدهم العون من الآخر، لأنّهم جميعاً يعرفون عدم جدوى ذلك.

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من هذه العبارة هي عدم السؤال عن الأنساب فهي تأكيد لقوله تعالى: (فلا أنساب بينهم).

ويبدو التّفسير الأوّل أوضح من غيره، رغم عدم التناقض فيما بينها، ويمكن أن تشير العبارة السابقة إلى هذه المعاني كلّها.

ورأى مفسّرون آخرون أنّه يستفاد من عدّة آيات تساؤل الناس يوم القيامة، كما جاء في الآية (27) من سورة الصافات، حيث تساءل المذنبون لدى مواجهة النّار (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون).

كما تحدّثت هذه السورة في الآية الخمسين عن أهل الجنّة ساعة إستقرارهم في الجنّة متقابلين، فقالت: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) إنّهم تساءلوا عن رفاق لهم في الحياة الدنيا إنحرفوا عن السبيل السوي فاقتيدوا إلى النّار.

كما جاء نظير هذا المعنى في الآية (25) من سورة الطور، فكيف تنسجم هذه الآيات مع الآية موضع البحث، وهي تنصّ على عدم تساؤل الناس يوم القيامة؟.

لو دقّقنا مليّاً في مضمون الآيات محلّ البحث لاتّضح لنا جواب هذا السؤال، فالآيات الخاصّة بإثبات سؤال بعضهم للآخر إنّما تتحدّث في حالة إستقرارهم في الجنّة، أو في النّار.

في وقت تنفي الآيات محل البحث تساؤل الناس حين البعث، حيث يسيطر الرعب على الجميع.

حتّى أنّ الناس ينسون جميع من حولهم ويذهلون عنهم من هول الحشر.

وبتعبير آخر: للقيامة مواقف ولكلّ موقف شأن معيّن، والإشكال المذكور نَجَمَ عن عدم تشخيص هذه المواقف.

وبعد وقوع القيامة تبدأ مرحلة الحساب وقياس الأعمال بميزان خاصّ بيوم القيامة: (فمن ثقلت موازينه فاُولئك هم المفلحون).

"الموازين" جمع "ميزان" وهو وسيلة للقياس.

وكما قلنا سابقاً: إنّ الميزان لا يعني ما نعرفه في هذه الدنيا لوزن الموادّ، إنّ الميزان في هذه الآية يعني وسيلة ملائمة لقياس قيمة أعمال الإنسان، أي: للميزان مفهوم واسع يشمل جميع وسائل القياس.

وكما ورد في الأحاديث المختلفة أنّه ميزان تقاس به الأعمال والناس، وهم قادة الإسلام الكبار، في الحديث: "إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته هم الموازين"(1).

وعلى هذا فإنّ الرسل وأوصياءهم هم الذين يقاس الناس وأعمالهم بهم، ليتبيّن إلى أي درجة يشبهونهم.

وبهذا يتميّز الناس ثقيلهم من خفيفهم، وثمينهم من تافههم، وعالمهم من جاهلهم.

كما يتّضح لنا سرّ ذكر الموازين بصيغة الجمع، لأنّ قادة الناس الكبار في السابق - وهم موازين القياس - قد تعدّدوا في التاريخ.

ويمكن أن يكون الأنبياء والأئمّة وعباد الله المخلصون قدوة في مجال معيّن أو أكثر على وفق الظروف التي مرّوا بها، فاشتهروا ببعض الصفات دون أُخرى، فواحدهم ميزان بما إشتهر به من حسنات وخصال حميدة.

(ومن خفّت موازينه) وهم الذين فقدوا الإيمان والعمل الصالح، فوزنهم خفيف يوم القيامة، لأنّهم خسروا رأسمال وجودهم: (فاُولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنّم خالدون) عبارة (خسروا أنفسهم) تصريح بحقيقة خسران المذنبين لأكبر رأسمال لهم - أي وجودهم - في سوق تجارة الدنيا دون أن يحصلوا على مقابل.

وتشرح الآيات التالية عذابهم الأليم (تلفح وجوههم النّار) ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف (وهم فيها كالحون) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار، في عبوس واكفهرار.

وكلمة "تلفح" مشتقّة من "لَفْح" على وزن "فتح" وتعني في الأصل ضربة السيف، وقد وردت هنا كناية، لأنّ لهيب النّار، أو نور الشمس المحرقة، وريح السموم، تضرب وجه الإنسان كضرب السيف.

وأمّا كلمة "كالح" فإنّها مشتقّة من "كلوح" على وزن "فُعُول" بمعنى التعبيس واكفهرار الوجه.

وقد فسّره عدد كبير من المفسّرين بتقلّص في جلد الوجه بحيث يبقى الثغر مفتوحاً لا يمكن إغلاقه(2).

ملاحظات

1 - اليوم الذي لا يعتنى فيه بالأنساب:

المفاهيم التي تسود حياة الإنسان المادّية في هذا العالم، ستتغيّر في عالم الآخرة، ومنها العلاقات الودّية، والأواصر الاُسريّة التي تحلّ مشاكل كثيرة في هذه الحياة، وأحياناً تشكّل النظام الذي يسيطر على سائر العلاقات الإجتماعية.

وإذا كان الإنتساب للقبائل والاُسر في الدنيا لا يعارض الإيمان بالله تعالى والعمل الصالح، فإنّه ينتفي يوم القيامة، فلا إنتساب لشخص أو طائفة أو قبيلة.

وإذا كان الناس هاهنا يساعد أحدهم الآخر، ويحلّ له مشاكله وينتصر له ويفخر به، فإنّهم ليسوا كذلك يوم القيامة، فلا خبر عن الأموال الكثيرة، ولا عن الأولاد (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم)(3).

حتّى مَن ينتسبون إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاضعون لهذا الحكم، ولهذا نلاحظ أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الأطهار طردوا عنهم من كان من المقرّبين في النسب الهاشمي، إمّا لعدم إيمانه، أو لإنحرافه عن الإسلام الأصيل، وأظهروا تنفّرهم وبراءتهم منه.

رغم أنّه روي عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: "كل حسب(4) ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ حسبي ونسبي"(5).

يقول العلاّمة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في الميزان: إنّ هذا الحديث هو نفسه الذي رواه بعض محدّثي أهل السنّة في كتبهم، مرّة عن عبدالله بن عمر، وأُخرى عن عمر بن الخطاب، وأحياناً عن صحابة آخرين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

في الوقت الذي نرى أنّ الآية - موضع البحث - ذات طابع عامّ، فهي تتحدّث عن إنقطاع جميع الأنساب يوم القيامة، وهذا ما تؤازره المبادىء القرآنية وسيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معاملة المنحرفين التي تفيد أنّه لا فرق بين الناس في هذا المجال.

لهذا نقرأ في حديث رواه ابن شهر آشوب في كتابه المناقب عن طاووس اليماني عن الإمام زين العابدين (ع) أنّه قال: "خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً"(6).

وما ذكر لا ينفي إحترام السادة المتّقين من آل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الإحترام في حقيقته إحترام للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء في القرآن والحديث في فضلهم ومنزلتهم ناظر حسب الظاهر إلى هذا المعنى.

2 - حكاية الأصمعي المؤثّرة:

ومن المناسب هنا ذكر حكاية نقلها "الغزالي" في كتابه "بحر المحبّة" عن الأصمعي، تؤيّد ما ذهبنا إليه وذات مسائل جديرة بالإهتمام.

يقول الأصمعي "كنت أطوف حول الكعبة في ليلة مقمرة، فسمعت صوتاً حنوناً لرجل يناجي ربّه.

بحثت عن صاحبه وإذا به شاب جميل رشيق القامة يبدو عليه الطيب.

وقد تعلّق بأستار الكعبة، وكان يقول في مناجاته:

ياسيّدي ومولاي، نامت العيون وغابت النجوم، وأنت ملك حيّ قيّوم، لا تأخذك سنة ولا نوم، غلقت الملوك أبوابها، وأقامت عليها حرّاسها وحجّابها، وقد خلا كلّ حبيب بحبيبه، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا سائلك ببابك مذنب فقير، خاطيء مسكين، جئتك أرجو رحمتك يارحيم، وأن تنظر إليّ بلطفك ياكريم!

ثمّ أنشد:

يامن يجيب دعا المضطر في الظلم ***** ياكاشف الكرب والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ***** وعين جودك ياقيّوم لم تنم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سرف ***** فمن يجود على العاصين بالنعم

هب لي بجودك فضل العفو عن سرف ***** يامن أشار إليه الخلق في الحرم

ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وناجى:

إلهي سيّدي ومولاي! إن أطعتك بعلمي ومعرفتي فلك الحمد والمنّة عليّ، وإن عصيتك بجهلي فلك الحجّة عليّ.

ورفع رأسه ثانيةً إلى السّماء مناجياً بأعلى صوته: ياإلهي وسيّدي ومولاي، ما طابت الدنيا إلاّ بذكرك، وما طابت العقبى إلاّ بعفوك، وما طابت الأيّام إلاّ بطاعتك، وما طابت القلوب إلاّ بمحبّتك، وما طاب النعيم إلاّ بمغفرتك.

يضيف الأصمعي أنّ هذا الشاب واصل مناجاة ربّه حتّى اُغمي عليه، فدنوت منه وتأمّلت في محيّاه فإذا هو علي بن الحسين زين العابدين، فأخذت رأسه في حجري وبكيت له كثيراً، فأعادته إلى وعيه قطرات دمع سكبت على وجنتيه، فتح عينيه وقال: من الذي شغلني عن ذكر مولاي؟ قلت: إنّك من بيت النبوّة ومعدن الرسالة.

ألم تنزل فيكم آية التطهير؟ ألم يقل الله فيكم: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجسل أهل البيت ويطهّركم تطهيراً).

نهض الإمام السجّاد وقال: ياأصمعي! هيهات هيهات! خلق الله الجنّة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النّار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً.

ألم تقرأ القرآن؟ ألم تسمع كلام الله: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).

يقول الأصمعي: عندما وجدته على هذا الحال، تركته ومضيت لسبيلي(7).

3 - تناسب العقاب مع الذنب

أشرنا سابقاً إلى العذاب الإلهي في القيامة، وإلى أنّ الذنوب التي ترتكب تتناسب مع العقاب بدقّة.

وقد ذكرت الآيات السابقة إحتراق الوجوه الشديد بلهيب النّار المحرقة، حتّى تكون الوجوه معبّسة والثغور مفتّحة.

كلّ ذلك عقاب للذين خفّت موازينهم وإنعدم إيمانهم.

ومع التوجّه لهذا المعنى، وهو أنّ هؤلاء كانوا يعبّسون حين سماع الآيات الإلهيّة وأحياناً يسخرون بها.

ويجلسون يتحدّثون باستهزاء وتهكّم، فإنّ هذا العذاب يناسب أعمالهم هذه.


1- بحار الأنوار، المجلّد السادس، صفحة 277.

2- بحار الأنوار، المجلّد السابع، صفحة 251 (الطبعة الجديدة).

3- تفسير القرطبي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير مجمع البيان، وتفسير الميزان، الآيات موضع البحث.

4- الشعراء، 89.

5- الحسب: كلّ فخر للإنسان بالآباء والأجداد. ويعني أحياناً الخُلُق السليم للشخص ذاته، وهنا قصد المعنى الأوّل. (يراجع لسان العرب في كلمة حسب).

6- مجمع البيان آخر الآية موضع البحث.

7- مناقب ابن شهر آشوب (وفق ما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص564).