الآيات 81 - 90

﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الاَْوَّلُونَ81 قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَـماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ82 لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ83 قُل لِّمَنِ الاَْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ84 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ85 قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـوَتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ86 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ 87 قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْء وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 88 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ89 بَلْ أَتَيْنَـهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ90﴾

التّفسير

القرآن يدعو الضمائر إلى التحكيم:

دعت الآيات السابقة منكري الله والمعاد إلى التفكّر في خلق عالم الوجود وآيات الآفاق والأنفس، وأضافت هذه الآيات أنّ هؤلاء تركوا عقولهم واتّبعوا أسلافهم وقلّدوهم تقليداً أعمى: (بل قالوا مثل ما قال الأوّلون).

ثمّ إنّ هؤلاء ملكهم التعجّب و: (قالوا أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنّا لمبعوثون)(1).

إنّ ذلك لا يصدق! (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) فكانت وعوداً كاذبة، و (إنّ هذا إلاّ أساطير الأوّلين) فإعادة الخلق اُسطورة، والحساب والكتاب أساطير أُخرى، وكذا الجنّة والنّار.

ولكون الكفّار والمشركين أشدّ خوفاً من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب، تذرّعوا بالأوهام لتسويغ إعراضهم عن الحقّ وتمسّكهم بالباطل.

ولهذا سدّدت الآيات موضع البحث ضربةً قويّة إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق: بتذكيرها الإنسان بمالكية الله لعالم الوجود المترامي الأطراف، وربوبيته له، وسيادته عليه.

وتستنتج - من جميع الأبحاث - قدرة الله وسهولة المعاد عليه سبحانه، وأنّ عدالته وحكمته تستلزمان أن يعقب هذا العالم عالم آخر وحياة أُخرى.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين إعترافاً بكلّ مسألة، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم.

يقول أوّلا: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون).

ثمّ تضيف الآية أنّهم يؤمنون بالله خالق الوجود وفق نداء الفطرة النابع من ذاتهم، وسيجيبونك و: (سيقولون لله) فأجبهم: (قل أفلا تذكرون) كيف تتصوّرون إستحالة إحياء الموتى بعد إعترافكم الصريح؟

ثمّ يأمر رسوله مرّة ثانية أن يسألهم: (قل من ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم).

فيأتي الجواب نابعاً من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي الإعتراف بربوبيّته تعالى (سيقولون لله) وبعد هذا الإعتراف الواضح فلماذا لا تخافون الله، ولا تعترفون بالمعاد وبعث الإنسان مرّة ثانية: (قل أفلا تتّقون).

واسألهم مرّة أُخرى عن سيادة الله على السماوات والأرض (قل من بيده ملكوت كلّ شيء).

ومن الذي يجير اللاجئين وجميع المحرومين ولا يحتاج إلى اللجوء إلى أحد: (وهو يجير ولا يجار عليه)، (إن كنتم تعلمون).

فيعترفون بأنّ العالم ومالكيته وحكومته وإجارة الآخرين يعود لله فقط (سيقولون لله).

(قل فأنّى تسحرون) أي: كيف تقولون: إنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سحركم رغم كلّ هذا الإعتراف والإقرار منكم؟!

إنّها لحقائق إعترفتم بها في كلّ مرحلة، فقد أقررتم بأنّه سبحانه مالك الوجود وخالقه، وأنّه المدير والمدبّر والحاكم والملجأ، فكيف لا يستطيع مَن له كلّ هذه القدرة والحكم والحكمة، إعادة الإنسان إلى تراب وبعثه ثانيةً كما خلقه أوّل مرّة؟

لماذا تفرّون من الخضوع للحقيقة؟ ولماذا تتّهمون النّبي الأكرم بالسحروقلوبكم تعترف بهذه الحقائق؟!

وأخيراً يقول القرآن في عبارة مختصرة ذات دلالة كبيرة بأنّه ليس سحراً ولا شعوذة ولا شيء آخر: (بل أتيناهم بالحقّ وإنّهم لكاذبون).

لقد بيّن الله الحقائق للناس بإرساله الأنبياء والرسل إليهم ولكنّهم عصوا أمره، ولم يستجيبوا له فيما يحييهم من عبادته وإقامة أحكامه الهادية لكلّ خير، المنقذة من كلّ شرّ.

ملاحظات

1 - معنى عدد من الكلمات

"الأساطير" جمع "اُسطورة" قال بعض اللغويين: إنّها مشتقّة من "السطر" بمعنى الصفّ، فيطلق على الكلمات التي إصطفّت في خطّ واحد لفظ السطر.

فالاُسطورة: الكتابة أو السطور التي تركها لنا الآخرون، ولأنّ كتابات القدماء تحتوي على أساطير خرافية، تطلق الأساطير على الحكايات والقصص الخرافية الكاذبة.

وقد تكرّرت كلمة الأساطير في القرآن المجيد تسع مرّات.

وجميعها جاء على لسان الكفّار لتوجيه مخالفتهم لأنبياء الله تعالى.

"الربّ" تعني - كما قلنا في تفسير سورة الحمد - المالك المصلح، ولهذا لا يطلق على كلّ مالك، وإنّما يختّص بالمالك الذي يسعى لإصلاح وحفظ وإدارة ملكه حفظاً جيّداً، وتطلق كلمة "ربّ" أحياناً على المربّي والمعلّم أيضاً.

"الملكوت" مشتقّة من "المُلك" (على وزن كُفر)، بمعنى الحكومة والمالكية، وإضافة الواو والتاء للتأكيد والمبالغة.

"العرش" يعني السرير ذا القوائم العالية، ويطلق أحياناً على السقف وشبهه.

وعندما تتعلّق هذه الكلمة بالله سبحانه، فإنّها تعني عالم الوجود كلّه، فهو كلّه دون جلاله المقدّس وحكمه الحكيم.

وقد تطلق أحياناً على عالم ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا) مقابل "الكرسي" الذي يعني عالم الطبيعة والمادّة، مثال ذلك (وسع كرسيه السماوات والأرض)(2)(3).

2 - تأكيد المعاد بالإستناد إلى قدرة الله الشاملة

يستنتج من آيات القرآن أنّ معظم مخالفة المنكرين للمعاد يدور حول مسألة المعاد الجسماني، ودهشتهم من عودة الروح والحياة ثانية إلى الإنسان بعد أن يصير تراباً، من هنا عدّدت الآيات معالم قدرة الله في عالم الوجود، وأكّدت خلقه لكلّ شيء من عدم، ليؤمنوا بالحياة بعد الموت، وتزول إستحالتها من تصوّرهم.

وبحثت هذه الآيات هذه المسألة من خلال بيان قدرة الله على الأرض وسكّانها.

وقدرته على السموات والعرش العظيم، وقدرته على إدارة عالم الخلق والنشر، وهذه السبل الثلاثة مصاديق لمفهوم واحد.

ويحتمل أيضاً أنّ كلا من هذه الأبحاث الثلاثة يشير إلى وجهة نظر المنكرين للمعاد، فلو كان إنكاركم للمعاد يعود إلى أنّ العظام البالية قد خرجت من دائرة حكومة الله وملكيّته، فهذا خطأ، لأنّكم تعترفون أنّ الله تعالى هو مالك الأرض ومن عليها.

وإن كان إنكاركم لأنّ بعث الأموات يحتاج إلى إله مقتدر، فأنتم تعترفون بأنّ الله ربّ السماوات والعرش.

وإن كان جحودكم أنّكم في شكّ من تدبير العالم بعد الحياة الجديدة وبعد بعث الأموات، فهو أيضاً في غير مورده، لأنّكم قبلتم تدبيره وإعترفتم بقدرته على إدارة عالم الوجود، وجوار من لا جار له (أي كلّ الموجودات) حيث يتكفّل برعايتها وتدبير اُمورها، فعلى هذا لا مجال لإنكاركم أيضاً.

وإجابة الكفّار في الحالات الثلاث بشكل منسجم موحّد (سيقولون لله) تؤكّد التّفسير الأوّل.

3 - إختلاف نهايات الآيات

والجدير بالإهتمام هو أنّه بعد السؤال الأوّل وإجابته جاءت عبارة: (أفلا تذكرون).

وبعد السؤال الثّاني وإجابته جاءت عبارة (أفلا تتّقون).

وبعد السؤال الثّالث وإجابته جاءت عبارة (فأنّى تسحرون).

وهذه عبارات تنبيه شديدة للكفّار وإستنكار لما هم عليه من باطل بشكل متدرّج ومرحلة بعد أُخرى، وهو اُسلوب متعارف ينسجم مع الأساليب المعروفة في التعليم والتربية المنطقيّة.

فإذا احتاج المربّي إلى إدانة شخص، يبدأ أوّلا بتنبيهه بلطف، ثمّ بحزم، وبعد ذلك يعنّفه!


1- "ذرأ" مشتقّة من الذرء (على وزن زرع). وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار، إلاّ أنّ كلمة (ذرو) وهي أيضاً على وزن فعل بمعنى البعثرة. الآية الأُولى من النوع الأوّل.

2- تقديم التراب على العظام إمّا لعودة التراب إلى الحياة الأُولى هي أعجب من عودة العظام، وإمّا لأنّ الأجداد أصبحوا تراباً والآباء عظاماً نخرة، وإمّا لصيرورة لحم الإنسان تراباً قبل العظام، ثمّ تتحوّل العظام إلى تراب.

3- بحثنا موضوع العرش بإسهاب في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.