الآيات 62 - 67
﴿وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَـبٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ62 بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَة مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَـلٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَـمِلُونَ63 حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ64 لاَ تَجْئَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ65 قَدْ كَانَتْ ءَايَـتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَـبِكُمْ تَنكِصُونَ66 مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَـمِراً تَهْجُرُونَ67﴾
التّفسير
قلوب في الجهل مغمورة!:
بما أنّ خصال المؤمنين هي سبب القيام بالأعمال الخيّرة التي أشارت إليها الآيات السابقة، فهنا يثار هذا التساؤل بأنّ هذه الخصال والقيام بهذه الأعمال لا تتيسّر لكلّ أحد.
فتجيب أوّل آية - من الآيات موضع البحث - عن ذلك فتقول: (ولا نكلّف نفساً إلاّ وسعها).
وكلّ إنسان يكلّف حسب عقله وطاقته.
وهذه إشارة إلى أنّ الواجبات الشرعيّة هي في حدود طاقة الإنسان.
وأنّها تسقط عنه إذا تجاوزت هذه الحدود، وكما يقول علماء اُصول الفقه: إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع الواجبات الشرعيّة ومقدّمة عليها.
وقد يُسأل: كيف يُحاسب كلّ البشر على أعمالهم كلّها صغيرها وكبيرها؟
فتجيب الآية (ولدينا كتاب ينطق بالحقّ وهم لا يظلمون) فهناك صحيفة أعمال الإنسان المحفوظة لدى الله العلي القدير.
وهي تنطق بالحقّ عمّا إقترفه الإنسان من ذنوب، فلا يمكنه إنكارها(1).
وربّما كان القصد من الكتاب الذي لدى الله هو اللوح المحفوظ.
ولفظ "لدينا" يؤكّد هذا التّفسير.
والخلاصة أنّ الآية المذكورة آنفاً تؤكّد حفظ الأعمال على أهلها من خير أو شرٍّ، فهي مسجّلة بدقّة، والإيمان بهذه الحقيقة يشجّع الصالحين على القيام بأعمال الخير، وإجتناب الأعمال السيّئة.
وتعبير (ينطق بالحقّ) الذي وصف صحيفة أعمال البشر تشبه القول: إنّ الرسالة الفلانية ذات تعبير واضح، أي: لا يحتاج إلى شرح.
وكأنّها ناطقة بذاتها، فهي تُجلّي الحقيقة.
وعبارة (وهم لا يظلمون) تبيّن أنّه لا ظلم ولا جور ولا غفلة يوم الحساب، فكلّ شيء في سجلٍّ معلوم.
ولكون هذه الحقائق مؤثّرة في الواعين من الناس فحسب، أضافت الآية التالية بأنّ هؤلاء الكفّار المعاندين غارقون في دوّامة الجهل والغفلة لدرجة أنّهم غافلون عمّا ينتظرهم من الوعيد: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)(2).
وهذا الإنغمار في الجهل لا يسمح بمعرفة هذه الحقائق، ويمنع الضالّين من العودة إلى أنفسهم وإلى الله تعالى.
وتضيف هذه الآية (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون)، وقد أورد المفسّرون تفاسير لقوله سبحانه: (ولهم أعمال من دون ذلك) فبعضهم قال: إنّها تعني الأعمال السيّئة التي يقترفها الناس عن جهالة (فعلى هذا تكون "ذلك" إشارة إلى جهلهم)، والأعمال هي الذنوب التي يرتكبها الإنسان عن غير علم ووعي وقال آخرون: إنّ المراد هو أنّهم إضافة إلى كفرهم إرتكبوا أنواعاً من الأعمال السيّئة.
واحتمل آخرون إختلاف برنامج الكفرة عن برنامج المؤمنين إختلافاً كبيراً.
ونحن نرى عدم إختلاف هذه التفاسير فيما بينها في نهاية الأمر، ويمكن الجمع بينها، المهمّ هو الإنتباه إلى أنّ مصدر الأعمال الشريرة يكمن في إنغمار القلوب في الجهالة.
ولكن هؤلاء المترفين يبقون في هذه الغفلة ما داموا في نعيمهم، فإذا جاءهم العذاب فهم يصرخون كالوحوش من شدّة العذاب الإلهي، كما تقول الآية: (حتّى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون).
فيخاطبون (لا تجأروا اليوم إنّكم منّا لا تنصرون).
أمّا لماذا ورد ذكر "المترفين" هنا فحسب مع أنّ المذنبين لا يختّصون بهم؟ السبب هو إمّا لكونهم قادةً للضالّين، أو لأنّ عذابهم شديد جدّاً.
ثمّ إنّ هذا العذاب يحتمل أن يكون دنيويّاً أو اُخرويّاً أو كليهما.
حيث يصيبهم العذاب في هذه الدنيا أو في الآخرة فيرتفع صراخهم، ويستغيثون فلا يغاثون.
وتكشف الآية التالية عن سبب هذا المصير المشؤوم (قد كانت آياتي تتلى عليكم وكنتم على أعقابكم تنكصون) بدلا من الإستفادة منها والإنتباه للواقع.
كلمة "تنكصون" مشتقّة من النكوص، بمعنى السير بشكل معاكس.
و "أعقاب" جمع "عقب" على وزن "فَعِل" وتعني عقب القدم.
وهذه الجملة كناية عن شخص يسمع كلاماً غير مرغوب فيه، فيرتعب لدرجة يسير فيها القهقرى على عقبي قدميه.
ثمّ إنّه لا يرجع إلى الوراء لمجرد سماعه آيات الله، وإنّما يصبح ممّن وصفتهم الآية (مستكبرين به)(3).
وإضافةً إلى ذلك (سامراً تهجرون) أي يتسامرون في لياليهم ويتحدّثون عن النّبي والقرآن بالباطل.
وكلمة "سامراً" مشتقّة من "سَمَرَ" على وزن "نصر" بمعنى التحدّث ليلا.
وقال البعض: إنّها تعني ظلّ القمر في الليل حيث يختلط السواد مع البياض فيه، وبما أنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حول الكعبة في الليالي المقمرة، وجُلّ حديثهم يتناول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالباطل، فوردت هذه الكلمة لهذا الغرض.
ويقال "سمراء" لمن إختلط بياضها بشيء من السواد.
و (تهجرون) مشتقة من "هَجْر" وتعني بالأصل الإبتعاد والإنفصال، وقد وردت بمعنى الهذيان الصادر من المريض.
لأنّ كلامه في تلك الحالة غير سليم.
ويبعث على النفور.
كما أنّ الهُجر (على وزن كُفر) يعني السباب، وهو أيضاً يبعث على الإبتعاد والقطيعة.
وقد جاءت كلمة "تهجرون" في الآية بالمعنى الأخير.
فتقول: إنّ المشركين من العرب كانوا يتسامرون حتّى ساعات متأخّرة من الليل، وهم يهذون ويكيلون السباب والشتائم كالمرضى.
وهذا الاُسلوب اُسلوب الجبناء وضعاف النفوس، الذين يلجأون إلى ظلمة الليل، ليكيلوا السباب، حيث يفتقدون المنطق السليم الذي يمكنهم من التحدّث برجولة في وضح النهار.
إنّهم إختاروا ظلام الليل بعيدين عن أنظار الناس، ليصلوا إلى أهدافهم المشؤومة، فلجأوا إلى السباب والباطل من أجل التنفيس عن أحقادهم الجاهلية.
يقول القرآن الكريم: إنّ سبب تعاستكم وما ستنالون من عذاب الله الأليم هو أنّكم إستكبرتم عن قبول الحقّ.
ولم ترضخوا بتواضع لآيات الله.
كما لم يكن تعاملكم مع النّبي بشكل منطقي صحيح.
ولولا ذلك لأهتديتم إلى طريق الحقّ والسعادة.
1- للإطلاع بشكل أوسع على موضوع الإستدراج يراجع تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.
2- لقد شرحنا بإسهاب صحيفة أعمال الإنسان وحقيقتها في التّفسير الأمثل حين تفسير الآية (13) من سورة الإسراء وكذلك حين تفسير الآية (49) من سورة الكهف.
3- يمكن أن تكون كلمة "هذا" إشارة إلى صحيفة الأعمال ويوم الحساب، أو القرآن المجيد، أو أعمال الصالحين التي أشارت الآيات السابقة إليها.