الآيات 51 - 54
﴿يَـأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلوا مِنِ الطَّيِّبَـتِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ51 وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقونِ52 فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ53 فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِين54﴾
التّفسير
جميع الاُمّة يد واحدة:
تحدّثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء واُممهم، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت: (ياأيّها الرسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم).
الفرق بينكم أيّها الأنبياء وبين سواكم من البشر، ليس في أنّكم لا تتّصفون بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة، وإنّما بسموّكم، ففيما يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم النهائي، زكت أنفسكم، وإختارت الطيّبات وصالح الأعمال.
بين عبارتي (كلوا من الطيّبات) و (اعملوا صالحاً) إرتباط واضح، فلنوع الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه.
وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ تناول الغذاء الحرام يمنع إستجابة الدعاء.
وروي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لرجل سأله عن إستجابة دعائه "طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام"(1) و (2).
وقوله تعالى: (إنّي بما تعملون عليم) بنفسه دليل مستقل على وجوب القيام بالعمل الصالح، لأنّ الإنسان عندما يعلم بأنّ الله يراقب أعماله، ولا يخفى عليه شيء وسوف نحاسبه بدقّة على ذلك، فلا شكّ في أنّ الإلتفات إلى هذا الأمر يساعد في إصلاح عمله.
مضافاً إلى أنّ تعابير الآية هذه تبعث في الإنسان الشعور بضرورة تقديم الشكر لله على ما أنعم عليه من الطيّبات، وبذلك تؤثّر في عمله أيضاً.
وبهذا بيّنت الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح:
الأوّل: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.
والثّاني: شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته.
الثّالث: الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلّها.
أمّا كلمة "الطيب" فهي كما قلنا تعني كلّ شيء نظيف وطاهر.
وهي نقيض كلمة "الخبيث" قال الراغب الاصفهاني في مفرداته: الطيب يعني: كلّ ما يسرّ الإنسان حسيّاً وروحياً، أمّا من الناحية الشرعية فهو الحلال الطاهر.
والقرآن المجيد ذكر الطيب والطيبات في كثير من الموارد:
(ياأيّها الرسل كلوا من الطيّبات)(3).
ثمّ لا يقصر الأمر على الرسل، بل: (ياأيّها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم)(4) بل إنّ ما يصل إلى مقام القرب هو الطيّب من الأعمال والأقوال: (إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه)(5).
وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أنّ الله تعالى رزقه من الطيّبات: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا)(6).
كما جاء في حديث موجز ثر المعنى عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عرض لهذه الحقيقة "ياأيّها الناس، إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً"(7).
ثمّ دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد الله وإلتزام تقواه (وإنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة) فالإختلافات الموجودة بينكم، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلا على التعدّدية إطلاقاً.
(وأنا ربّكم فاتّقون).
فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة، ليعيش الناس اُمّة واحدة، كما أنّ الله ربّهم واحد أحد.
ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء (عليهم السلام) إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحّدة، ذات أساس واحد في كلّ مكان "توحيد الله ومعرفة الحقّ، الإهتمام بالمعاد والتكامل في الحياة، والإستفادة من الطيّبات والقيام بالأعمال الصالحة.
والدفاع عن العدل والمبادىء الإنسانيّة".
ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة "اُمّة" تعني هنا الدين والعقيدة.
وليس المجتمع.
إلاّ أنّ ضمير الجمع في جملة (أنا ربّكم) دليل على أنّ (الاُمّة) تعني الناس جميعاً.
وقد وردت كلمة "الاُمّة" في القرآن المجيد بمعنى "الجماعة" غالباً، وندر ورودها بمعنى "الدين" مثل (إنّا وجدنا آباءنا على اُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون)(8).
وممّا يلفت النظر أنّ هذا المعنى تضمنّته الآية 92 من سورة الأنبياء مع فارق بسيط (إنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون).
في وقت شرحت الآيات السابقة لهذه الآية حياة كثير من الأنبياء، و "هذه" في الحقيقة إشارة إلى اُمم الأنبياء السابقين، الذين كانوا يشكّلون اُمّة واحدة بحسب التعاليم الإلهيّة، حيث تحرّكوا جميعاً لتحقيق هدف واحد.
وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة والإختلاف، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالوحدة فقالت: (فتقطّعوا أمرهم بينهمزبراً) وممّا يثير الدهشة أنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون).
"الزبر" جمع "زبرة" على وزن "لقمة" تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه.
يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر.
ثمّ أطلقت هذه الكلمة على كلّ شيء ينفصل عن أصله، فتقول الآية: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً).
إشارة منها إلى تفرّق الاُمّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.
واحتمل البعض الآخر أنّ الزبر جمع "زبور" بمعنى كتاب، وتعني أنّ كلّ فئة منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية، مع أنّ مصدرها واحد.
ولكن عبارة (كلّ حزب بما لديهم فرحون) تدعم التّفسير الأوّل، فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه، ويصرّ على رأيه.
تستعرض الآية حقيقة نفسيّة وإجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلاًّ منها قد اتّخذ سبيلا خاصّاً به، وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه، ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق.
وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدوٍّ للحقيقة، ولوحدة الاُمّة.
إنّ الإعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة وإحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ اُذنيه عن كلّ صوت يخالف ما إعتقده.
ويُغطّي رأسه بثوبه، أو يلجأ إلى الفرار خوفاً من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوح (ع) وعلى لسان هذا النّبي المرسل: (وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا إستكباراً)(9).
ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلاّ بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده.
ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا: (فذرهم في غمرتهم حتّى حين) أي اتركهم على حالهم حتّى يأتي أجلهم، أو يأتيهم الله بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.
وكلمة "حين" قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.
وأمّا "الغمرة" على وزن "ضربة" فهي بالأصل من "غمر" أي إتلاف كلّ شيء.
ثمّ أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كلّ شيء يواجهه ويواصل جريانه، ثمّ أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان.
كما إستعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.
1- في الحالة الأُولى تكون الميم جزءاً من الكلمة، وهي على وزن "فعيل"، وفي الثّانية الميم زائدة وهي على وزن مفعول "مثل مبيع".
2- وسائل الشيعة، المجلّد الرّابع، الدعاء الباب (67) الحديث (4).
3- تناولنا شرح ذلك في تفسير الآية (186) من سورة البقرة.
4- المؤمنون، 51.
5- البقرة، 172.
6- فاطر، 10.
7- الإسراء، 70.
8- تفسير القرطبي، المجلّد السابع، صفحة 4519 (حول الآية موضع البحث).
9- الزخرف، 23.