الآيات 31 - 41
﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ 31 فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ32 وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا مَا هَـذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ33 وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـسِرُونَ34 أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَـماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ35 هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ36 إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ37 إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ38 قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ39 قَالَ عَمَّا قَلِيل لَّيُصْبِحُنَّ نَـدِمِينَ40 فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَـهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ41﴾
التّفسير
المصير المؤلم لقوم ثمود:
تحدّثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوح (ع).
ومنطقهم يتناغم ومنطق الكفّار السابقين، كما شرحت مصيرهم الأليم، فأكملت بذلك ما بحثته الآيات السابقة.
فهي تقول أوّلا: (ثمّ أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين).
"القرن" مشتقّ من الإقتران، بمعنى القرب، لهذا يطلق على الجماعة التي تعيش في عصر واحد، كما تطلق هذه الكلمة على عصر هؤلاء، وقياس زمن القرن بثلاثين أو مائة سنة يتّبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.
وبما أنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد ربّاني، فقد بعث الله أنبياءه يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس، حيث تقول الآية التالية: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
وهذه هي الركيزة الأساسيّة لدعوة الأنبياء، إنّها نداء التوحيد، اُسُّ جميع الإصلاحات الفردية والإجتماعية، وبعدها أكّد رسل الله لهم القول: إنّكم وبعد هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان: (أفلا تتّقون).
أمّا أيّ قوم كان هؤلاء؟ ومن هو نبيّهم؟
قال المفسّرون بعد دراسة الآيات المشابهة لهذه الآية: هناك إحتمالان:
الأوّل: أنّهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز، وبعث الله النّبي "صالح"(ع) لهدايتهم، إلاّ أنّهم كفروا وطغوا فأهلكهم الله بالصيحة السماوية (الصاعقة القاتلة) وشاهد هذا التّفسير ودليله هو الصيحة التي ذكرت في ختام الآيات موضع البحث، والتي جاءت في سورة هود الآية (67) حيث خصّت قوم صالح (ع).
والإحتمال الثّاني: خصها بقوم "عاد" الذين كان نبيّهم "هود" (ع)، وقد ذكرتهم آيات قرآنية مباشرة بعد سرد قصّة نوح (ع)، وهذا دليل على صحّة هذا التّفسير(1)، إلاّ أنّ عقاب قوم عاد كما جاء في الآيتين السادسة والسابعة من سورة "الحاقة"، كان ريحاً شديداً استمرّ سبعة أيّام فدمّرهم عن بكرة أبيهم، إذن فالتّفسير الأوّل هو الأصحّ.
ولننظر الآن ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه هذا النّبي الكبير؟
يقول القرآن في الآية التالية: (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون).
أجل إنّ القوم الذين عاشوا في رفاه مطلق دعاهم القرآن باسم الملأ (ترى ظاهرهم يملأ العين، إلاّ أنّ باطنهم خاو من النور).
وبما أنّهم كانوا يرون في دعوة نبي الله خلافاً لأهوائهم ومنافسةً لمصالحهم العدوانية وتسلّطهم الذي لا مبرّر له، وقد أترفوا فبعدوا عن ذكر الله، وأنكروا الآخرة، فجادلوا نبيّهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح، فقد رأوا في بشرية القادة الربانيّين وتناولهم الطعام كباقي الناس دليلا على بطلان نبوّة هؤلاء، في حين أنّ هذا الأمر بحدّ ذاته مؤيّد على كون هؤلاء الرجال العظام حملة رسالة من الله إلى الناس، ولأنّهم نهضوا من بين جماهير الناس بعد أن شعروا بآلامهم وعملوا بما يحتاجونه بشكل جيّد.
ثمّ قال بعضهم للبعض الآخر: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنّكم إذاً لخاسرون).
هؤلاء الحمقى لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، وهي انّهم يريدون من الناس بهذه الوساوس الشيطانية أن ينقادوا له في محاربة الأنبياء، في الوقت الذي يعيبون فيه على الذين يتّبعون من كان يستمدّ العون من مركز الوحي وقد مليء قلبه نوراً وعلماً إلهيّاً.
ويرون في هذا العمل تقييد لحريّة الإنسان.
ومن ثمّ أنكروا المعاد، الذي كان دوماً سدّاً منيعاً لاتّباع الشهوات وأرباب اللذّات، وقالوا: (أيعدكم أنّكم إذا متّم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مخرجون) لتعيشون حياة جديدة (هيهات هيهات لما توعدون) فقد تساءل الكفّار: هل يمكن البعث والناس قد أصبحوا تراباً وتبعثرت ذرّاتهم هنا وهناك؟ إنّ ذلك مستحيل!!
وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة أُخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت(إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).
وأخيراً لخّصوا التّهم التي وجّهوها إلى نبيّهم فقالوا: (إن هو إلاّ رجل افترى على الله كذباً وما نحن بمؤمنين) فلا رسالة إلهيّة، ولا بعث، ولا برنامج سماوي، وعليه لا يتسنّى لعاقل الإيمان به.
وعندما طغى عناد الكفّار، وزالت آخر قطرة من الحياء منهم، فتجاسروا على الله، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكلّ صلافة، وقد أتمّ الله حجّته عليهم، عندها توجّه هذا النّبي الكبير إلى الله سبحانه وتعالى و (قال ربّ انصرني بما كذّبون) ربّاه: انصرني فقد هتكوا الحرمات، واتّهموني بما شاؤوا وكذّبوا دعوتي.
فأجابه الله عزّوجلّ كما ذكرت الآية (قال عمّا قليل ليصبحنّ نادمين) ألا إنّهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.
وهكذا جرى (فأخذتهم الصيحة بالحقّ) حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاماً، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية الكريمة (فجعلناهم غثاءً) أي جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل (فبعداً للقوم الظالمين).
تعليقات
1 - الحياة المترفة وأثرها المشؤوم
بيّنت الآيات السابقة العلاقة بين "الترف" (حياة الأشراف المنّعمين) وبين "الكفر وإنكار لقاء الله" وهذه هي الحقيقة بعينها.
فالذين يعيشون مترفين يطلقون العنان لشهواتهم الحيوانية.
فمن الواضح أنّهم لايقبلون برقابة إلهيّة، ولا يعترفون بيوم البعث حيث تنتظرهم محكمة العدل الإلهي.
والإقرار بذلك يونّب ضمائرهم ويثير الناس عليهم، لهذا فانّ هؤلاء الأشخاص لا يقرّون بالعبودية لله، وينكرون المبدأ والمعاد، ويرون الحياة كما ذكرت الآيات السابقة (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).
هذا هو شعارهم المعبّر عن فتنتهم وضلالهم الصارخ: فلنغتنم هذه الفرصة فلا خبر جاء ولا وحي نزل، ومن يدّعي ذلك فهو كاذب! وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة .. هكذا كانوا يبرّرون إنكارهم ليوم البعث.
إضافةً إلى ذلك فتحقيق مثل هذه الحياة المترفة لا تتمّ بداً إلاّ بسلب حقوق الآخرين وظلمهم، وهذا لا يكون إلاّ بإنكار رسالة الأنبياء والقيامة، ولهذا نرى الذين عاشوا في بذخ مترف يحتقرون كلّ القيم السماوية وينكرون كلّ شيء إلهي.
هؤلاء الحمقى أصبحوا أسرى لأهوائهم النفسيّة، فخرجوا عن طاعة الله وأصبحوا عبيداً لأهوائهم وشهواتهم، بل أصبحوا عبيداً لعبيد آخرين، بنفسيّة وضيعة، وقلوب سوداء قاتمة، ومستقبل موحش، على الرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّهم متنّعمون وسيبقون كذلك، غير أنّ القلق الذي يسيطر عليهم من عقاب الله وزوال نعمته والخوف من الموت لا يدع لهم راحة.
2 - "التراب" و "العظام"
يتفسّخ جسم الإنسان بعد موته حتّى يتحوّل إلى تراب، إلاّ أنّ الآية السابقة قدّمت التراب على العظام، لماذا؟
قد يكون ذلك إشارة إلى القسمين المهمّين من مكوّنات الجسم (اللحم والعظم) فاللحم يتفسّخ أوّلا ويصبح تراباً، وتبقى العظام لسنين عديدة ثمّ تبلى أخيراً وتصبح تراباً أيضاً.
وربّما كان التراب هنا إشارة إلى الأجداد القدماء جدّاً الذين أصبحوا تراباً، والعظام إشارة إلى الآباء الذين تفسّخت أجسامهم، وبقيت العظام لم تتحوّل إلى تراب(2).
3 - ما معنى الغثاء؟
اطّلعنا على مصير قوم ثمود وهو - كما ذكرته الآيات السابقة - أنّهم قد أصبحوا "غثاء".
والغثاء، يعني النباتات الجافّة المتراكمة والطافية على مياه السيول، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان، وتشبيه الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وإنكسارها وتفاهتها، لأنّ هشيم النبات فوق مياه السيل تافه لا قيمة له، ولا أثر له بعد إنتهاء السيل (وقد شرحنا بإسهاب الصيحة السماوية في تفسير الآية 67 من سورة هود) هذا ولم يكن هذا العقاب خاصّاً - فقط - بقوم ثمود، حيث هناك أقوام أُخرى اُهلكت به.
وقد تمّ شرحه في حينه.
4 - مصير عام
وممّا يلفت النظر أنّ آخر عبارة في الآيات - موضع البحث - أخرجت القضيّة من إطارها وجعلتها قانوناً عامّاً، حيث تقول: (فبعداً للقوم الظالمين) وهذا إستنتاج نهائي من كلّ هذه الآيات، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات الإلهيّة والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيّئة لا تختّص بجماعة معيّنة، بل تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.
1- الباء في "بما كذّبون" ربّما كانت سببيّة أو للمقابلة. وأمّا "ما" فيمكن أن تكون مصدرية أو موصولة، ويختلف معنى كلّ منهما. إلاّ أنّ هذا الإختلاف ليس مهمّاً (فتأمّلوا جيداً).
2- يراجع في ذلك سورة هود الآية (50) وسورة الأعراف الآية (65) وسورة الشعراء الآية (123).