الآيات 12 - 16
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَـنَ مِن سُلَـلَة مِّن طِين12 ثُمَّ جَعَلْنَـهُ نُطْفَةً فِى قَرَار مَّكِين13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـماً فَكَسَوْنَا الْعِظَـمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَـلِقِينَ14 ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ 15 ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ تُبْعَثُونَ16﴾
التّفسير
مراحل تكامل الجنين في الرحم:
إنّ ذكر الآيات السابقة أوصاف المؤمنين الحقيقيين، وما يمنحهم الله من جزاء عظيم يبعث في القلوب الشوق للإلتحاق بصفوفهم، لكن بأي طريق؟
تبيّن الآيات موضع البحث - وقسم من الآيات التالية لها - السبيل لكسب الإيمان والمعرفة، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى "عالم النفس" وليكشف له أسرار باطنه وهو "السير الأنفسي"، وتثير الآيات التالية لها إنتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسبر عالم الآفاق، وهو "السير الآفاقي".
تقول الآيات أوّلا: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)(1).
أجل، إنّ هذه الخطوة الأُولى التي خلق الله فيها الإنسان بكلّ عظمته وإستعداده وجدارته والذي يعتبر أفضل مخلوقاته من تراب مهين لا قدر ولا قيمة له، وهكذا تجلّت قدرته سبحانه وتعالى في هذا الخلق البديع.
وتضيف الآية التالية (ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين).
وفي الواقع فانّ الآية الأُولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه وأنّهم خلقوا جميعاً من التراب، إلاّ أنّ الآية التالية تشير إلى تداوم وإستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الاُنثى في الرحم.
وهذا البحث يشبه ما جاء في الآيتين السابعة والثامنة من سورة السجدة (وبدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين).
والتعبير عن الرحم بـ"قرار مكين"، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهميّة الرحم في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة أُخرى، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له.
وكلّ ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.
ثمّ تشير الآية الثّالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتّخاذها شكلا معيّناً في كلّ منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثمّ بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثمّ جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: (ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً).
هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافاً إلى مرحلة النطفة تشكّل خمس مراحل، كلّ منها عالم عجيب بذاته مليء بالعجائب بحثت بدقّة في علم الجنين، وأُلّفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلاّ أنّ القرآن تكلّم عن هذه المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبيّن عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له أثر.
وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر - في الحقيقة - أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر) و (فتبارك الله أحسن الخالقين).
مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كلّ هذه الاُمور المدهشة.
طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كلّ هذه القابليات والجدارة.
تعالى الله فقد تجلّت قدرته فيما خلق.
وجدير بالذكر أنّ كلمة "الخالق" مشتقّة من "الخلق" وتعني بالأصل التقدير(2)، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثمّ يقطعها، فيستخدم لفظ "الخلق" بمعنى التقدير، لأهميّة تقدير أبعاد الشيء، قبل قطعه.
أمّا عبارة (أحسن الخالقين) فتثير هذا التساؤل: هل يوجد خالق غير الله؟!
وضع بعض المفسّرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه التبريرات، لأنّ كلمة "الخلق" بمعنى التقدير والصنع، ويصحّ ذلك بالنسبة لغير الله، إلاّ أنّ هناك إختلافاً جوهرياً بين الخلقين ... يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه ممّا خلق الله، فهو يغيّر صورها.
كمن يبني داراً حيث يستخدم مواداً أوّلية كالجصّ والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة.
ومن جهة أُخرى لا حدود لخلق الله (الله خالق كلّ شيء) سورة الرعد الآية (16) في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدوداً جدّاً، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه هو نقصاً يجب سدّه فيما بعد، إلاّ أنّ الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب.
ثمّ إنّ قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كلّ شيء في العالم يتحرّك بإذن الله، حتّى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة الآية (110) عن المسيح (ع) (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني).
وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ - بشكل دقيق وجميل - إلى مسألة المعاد حيث تقول: (ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون).
ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كلّ شيء، تقول الآية: (ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون) أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.
بحوث
1 - اتّباع المبدأ والمعاد بدليل واحد
إستخدمت الآيات المذكورة أعلاه لإثبات وجود الله وقدرته وعظمته نفس الدليل الذي إستخدمته سورة الحجّ لإثبات المعاد، وهو مسألة المراحل المختلفة لخلق الإنسان في عالم الجنين.
كما إنتقلت آخر هذه الآيات إلى بحث مسألة المعاد(3).
أجل، يمكن أن تعرف عظمة الله في خلق الإنسان في ظلمات الرحم، وإتّخاذه في كلّ مرحلة صورة جديدة مدهشة، وكأنّ عشرات الأشخاص من رسّامين وصنّاع مبدعين التفّوا حول هذه القطرة من الماء، وعملوا ليل نهار ليخرجوها بهذه الصورة البديعة، ولتمرّ من صورة إلى أُخرى أبدع، حتّى تمرّ في مختلف مراحل الحياة.
وإذا تمكّنا من تصوير مراحل نمو الجنين بشكل كامل في فيلم سينمائي، وعرضناها لَفَهِمنا مدى العجائب التي تكمن في هذا العمل.
وبتقدّم علم الجنين في عصرنا ودراسات العلماء وتجاربهم المختبرية على هذا الأمر، اتّضحت الكثير من الغوامض التي عندما يطّلع عليها المرء يصرخ دون إرادته (فتبارك الله أحسن الخالقين) هذا من جهة.
ومن جهة ثانية نلاحظ الخلق المتعاقب وإتّخاذه صورة جديدة في كلّ مرحلة، وبالتالي ظهور إنسان للوجود كامل الخلق من تلك القطرة الصغيرة من الماء .. كلّ ذلك يدلّ على قدرة الله على بعث الإنسان ثانية إلى الحياة.
وبهذا يمكن البرهنة بدليل واحد على مسألتين(4).
2 - آخر مرحلة في تكامل جنين الإنسان في الرحم
ممّا يلفت النظر إستخدام الآيات السابقة لمراحل الجنين الخمسة تعبير "الخلق"، في حين إستخدمت كلمة "الإنشاء" لآخر مرحلة، وكما ذكر اللغويون فإنّ كلمة "الإنشاء" تعني (خلق الشيء مع تربيته) وهذا التعبير يدلّ على إختلاف هذه المرحلة عن المراحل السابقة (مرحلة النطفة والعلقة والمضغة واللحم والعظم) إختلافاً بيّناً.
مرحلة ذكرها القرآن في عبارة موجزة (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر)ويعقّب ذلك مباشرةً بالقول: (فتبارك الله أحسن الخالقين).
ما هذه المرحلة التي تمتاز بهذه الأهميّة؟
إنّها مرحلة يدخل فيها الجنين مرحلة الحياة الإنسانيّة، يكون له إحساس وحركة، وبتعبير الأحاديث الإسلامية "نفخ الروح".
هنا يترك الإنسان حياته النباتية بقفزة واحدة ليدخل عالم الحيوان، ومنه إلى عالم الإنسانية، وتتباعد الشقّة مع المرحلة السابقة بدرجة إستخدمت الآية لها عبارة (ثمّ أنشأنا) لأنّ عبارة (ثمّ خلقنا) لم تعدّ كافية.
حيث يتّخذ الإنسان في هذه المرحلة شكلا خاصاً يرفعه عن المخلوقات الاُخرى، ليكون جديراً بخلافة الله في الأرض، وليحمل الأمانة التي تخلّت عنها الجبال والسموات، لعدم إستطاعتها حملها.
وهنا انطوى "العالم الكبير" في "الجرم الصغير" بكلّ عجائبه، فيكون جديراً حقّاً بعبارة (تبارك الله أحسن الخالقين).
3 - كساء اللحم فوق العظام
ذكر مفسّر (في ظلال القرآن) عند تفسير هذه الآية جملة مدهشة هي أنّ الجنين بعد قطعه مرحلة "العلقة" و "المضغة" تتبدّل خلاياه إلى خلايا عظميّة، ثمّ تكتسي بالتدريج بالعضلات واللحم.
لهذا فإنّ عبارة (كسونا العظام لحماً) معجزة علمية تكشف سرّاً لم يكن يعلم به أي شخص حتّى ذلك الزمن.
لأنّ القرآن لم يقل: أبدلنا المضغة عظماً ولحماً، بل قال: (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً)أي تبدّلت المضغة إلى عظام أوّلا، ثمّ اكتست باللحم.
4 - اللباس صيانة للعظام!
إنّ إستخدام اللباس للتعبير عن العضلات واللحم يكشف لنا حقيقة قباحة شكل الإنسان إن فقد هذا اللباس الذي يكسو العظام (فيصبح هيكلا عظميّاً مرعباً كما شاهدناه جميعاً أو شاهدنا صورته) إضافة إلى ذلك فإنّ اللباس يحمي الجسم، وهكذا اللحم والعضلات تحمي العظام، وبفقدانها تتلقّى العظام ضربات تؤدّي إلى كسرها، ويؤدّي اللحم وظيفة اللباس بالنسبة للعظام في المحافظة عليها من الحرّ والبرد.
وهذا كلّه يبيّن لنا قوّة التعبير القرآني ودقّته.
1- النحل، 91.
2- "السلالة" على وزن "عصارة" تعني الشيء الذي يستخلص من شيء آخر، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه (مجمع البيان حول الآية موضع البحث).
3- مختار الصحاح.
4- تناولنا في بداية سورة الحجّ خلال البحث الآيتين الخامسة والسابعة أدلّة المعاد ومنها إستعراض مراحل الجنين في الرحم.