الآيات 67 - 70
﴿لِّكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَـزِعُنَّكَ فِى الاَْمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُّسْتَقِيم67 وَإِن جَـدَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ68 اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ69 أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِى كِتَـب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ70﴾
التّفسير
لكلّ اُمّة عبادة:
تناولت البحوث السابقة المشركين خاصّة، ومخالفي الإسلام عامّة، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادىء نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة.
وكانوا يرون من ذلك ضعفاً في الشريعة الإسلامية، وقوّة في أديانهم، في حين أنّ ذلك لا يشكل ضعفاً إطلاقاً، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الربّاني جلّياً (لكلّ اُمّة جعلنا منسكاً هم ناسكوه)(1).
"المناسك" - كما قلنا سابقاً - جمع "منسك" أي مطلق العبادات، ومن الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهيّة.
لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكلّ اُمّة شرعة ومنهاجاً يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها، لكنّ ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المرتقّية، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة: (فلا ينازعنّك في الأمر).
فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر.
(وادع إلى ربّك إنّك لعلى هدى مستقيم).
تخاطب الآية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ياأيّها النّبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالّة، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.
فوصف "الهدى" بالإستقامة، إمّا تأكيداً لها، وإمّا إشارة إلى أنّها يمكن أن تتحقّق بطرق مختلفة، قريبها وبعيدها، مستقيمها وملتويها، إلاّ أنّ الهداية الإلهيّة أقربها وأكثرها إستقامة.
ثمّ أضافت الآية (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون) فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك، ولم يؤثّر فيهم كلامك.
فقل لهم: انّ الله أعلم بأعمالكم، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد، وتحلّ جميع الإختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس: (الله يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)(2).
وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم وإطّلاع دقيق بأعمالهم، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى: (ألم تعلم أنّ الله يعلم ما في السموات والأرض) و (إنّ ذلك في كتاب).
أجل، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له، كتاب عالم الوجود وعالم العلّة والمعلول، عالم لا يضيع فيه شيء، فهو في تغيير دائم، حتّى لو خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فانّها لا تنعدم، بل تبقى في هذا الكتاب الجامع لكلّ شيء بدقّة.
أي إنّ كلّ ما يجري في هذا الكون مسجّل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي، وكلّ هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها.
وهذا من معاني القدرة الإلهيّة التي نلمسها في قوله تعالى: (إنّ ذلك على الله يسير).
1- بحثنا في تفسير الآية (103) من سورة الأنعام حول لطف الله. فعلى الراغب مراجعته.
2- يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآيات تشير إلى ردّ لما أثاره المشركون من إعتراض قائلين: لماذا لا تأكلون الميتة التي قتلها الله، في وقت تأكلون فيه الميتة التي قتلتموها أنتم؟! فنزلت هذه الآيات لتردّ عليهم.
إلاّ أنّه يستبعد أن تتضمّن هذه الآيات ذلك. لأنّ أكل الميتة لم تسمح به شريعة - في الظاهر - لما فيه من ضرر، حتّى يأتي القرآن ليؤيّد ذلك ويقول: لكلّ شريعة تعاليمها.