الآيات 63 - 66
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الاَْرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ63 لَّهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ64 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاَْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاَْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ65 وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الاِْنسَـنَ لَكَفُورٌ66﴾
التّفسير
دلائل الله في ساحة الوجود:
تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنّه الحقّ المطلق، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحقّ المطلق وتقول أوّلا: (ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضّرة).
لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن - من أثر الجفاف - بعد ما نزل المطر عليها.
فأصبحت تسرّ الناظرين.
أجل (إنّ الله لطيف خبير).
وكلمة "لطيف" مشتقّة من "اللطف" بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته.
ولهذا يطلق على الرحمة الإلهيّة الخاصّة لفظ "اللطف".
وكلمة "الخبير" تعني المطّلع على الاُمور الدقيقة.
وبلطف الله تنمو البذرة تحت الأرض، ثمّ ترتفع خلافاً لقانون جاذبية الأرض، وترى الشمس وتشمّ نسيم الهواء حتّى تصبح نباتاً مثمراً أو شجرة باسقة.
وهو الذي أنزل المطر فمنح التربة الجافّة لطفاً ورقة لتسمح للبذرة بالحركة والنمو.
وهو خبير بجميع الإحتياجات والمراحل التي تمرّ بها هذه البذرة حتّى ترتفع نحو السّماء.
يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه، فإن زاده صار سيلا، وإن نقصه كثيراً ساد الجفاف في الأرض، وتقول الآية الثامنة عشرة من سورة المؤمنين: (وأنزلنا من السّماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض)(1).
الآية التالية تعرض علامة أُخرى على قدرة الله غير المتناهية، وهو قوله سبحانه وتعالى: (له ما في السموات وما في الأرض).
فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم، وبهذا الدليل يكون قادراً عليهم، لذا فهم يحتاجون إليه جميعاً، ولا يحتاج هو إلى شيء أو إلى أحد.
ويزداد هذا المعنى إشراقاً في قوله سبحانه: (وإنّ الله لهو الغني الحميد)والتحام صفتي الغني والحمد جاء في غاية الإحكام:
أوّلا: لأنّ عدداً كبيراً من الناس أغنياء، إلاّ أنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط، وقد غرقوا في الغفلة والغرور.
وتغلّب على أصحاب الثروة الطائلة هذه الصفات.
أمّا غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود والكرم، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.
ثانياً: إنّ الأغنياء غيّر الله تعالى غناهم ظاهري، وإذا كانوا كرماء فإنّ كرمهم في الواقع ليس منهم، بل من لطف الله سبحانه وقديم إحسانه، فكلّ إمكاناتهم إنّما هي من أنعم الله.
فالله وحده هو الغني بذاته والجدير بكلّ حمد وثناء.
ثالثاً: لأنّ الأغنياء يعملون ما يفيدهم أو يتوخّون فائدته، أمّا ربّ العالمين سبحانه وتعالى، فيجود ويرحم ويعفو دون حساب، ولا إبتغاء فائدة، ولا سدّ حاجة، وإنّما يفعل ذلك كرماً منه ورحمة، فهو أهل الحمد والثناء بلا شريك.
وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان (ألم تر أنّ الله سخّر لكم ما في الأرض) وجعل تحت إختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأي صورة تريدون، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها.
(الفلك تجري في البحر بأمره) إضافةً إلى (ويمسك السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه) فالكواكب والنجوم تسير في مدارات محدّدة بأمر الله سبحانه وتعالى، كلّ ذلك لتسير في فاصلة محدّدة لها عن الكواكب الاُخرى، وتمنع إصطدام بعضها ببعض.
وخلق الله طبقات جويّة حول الأرض لتحول دون وصول الأحجار السائبة في الفضاء إلى الأرض وإلحاق الضرر بالبشر.
وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم، فقد خلق الأرض آمنة لعباده، فلا تصل إليهم الأحجار السائبة في الفضاء، ولا تصطدم الأجرام الاُخرى بالأرض.
وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة (إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم).
وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضيّة في الوجود، أي قضيّة الحياة والموت فتقول: (وهو الذي أحياكم) أي كنتم تراباً لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة (ثمّ يميتكم)وبعد إنقضاء دورة حياتكم يميتكم (ثمّ يحييكم) أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.
وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نِعم الله عليه قائلة: (إنّ الإنسان لكفور)فرغم كلّ ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسّماء، في الجسم والروح، لا يحمده ولا يشكره عليها، بل يكفر بكلّ هذه النعم.
ومع أنّه يرى كلّ الدلائل الواضحة والبراهين المؤكدة لوجود الله تبارك وتعالى، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك.
فما أظلمه وأجهله!
ملاحظات
1 - الصفات الخاصّة بالله:
بيّنت الآيات السالفة الذكر والآيتان اللتان سبقتها، أربع عشرة صفة من صفات الله (في نهاية كلّ آية جاء ذكر صفتين من صفات الله) العليم والحليم - العفو والغفور - السميع والبصير - العلي والكبير - اللطيف والخبير - الغني والحميد - الرؤوف والرحيم.
وكلّ صفة تكمل ما يقترن بها.
وتنسجم معها وتتناسب مع البحث الذي تناولته الآية، كما مرّ سابقاً.
2 - الآيات تدلّ على توحيد اللّه وعلى المعاد
إنّ الآيات السابقة، مثلما هي دليل على قدرة الله تعالى وتأكيد لما وعد من نصر لعباده المؤمنين، وشاهد على حقّانيته المقدّسة التي إستندت الآيات السالفة الذكر إليها، فهي دليل على توحيد الله وعلى المعاد.
فإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، ونموّ النبات فيها، وكذلك حياة الإنسان وموته شاهد على البعث والنشور.
ومعظم الآيات عرضت هذه الأدلّة في البرهنة على حقيقة المعاد يوم القيامة.
وقوله تعالى: (إنّ الإنسان لكفور) تأكيد على إصرار المعاندين على الكفر، ففي صيغة المبالغة "كفور" دلالة على هذا العناد، فهذا الإنسان منكر لفضل ربّه مع مشاهدته لآياته العظيمة، ومصرّ على الإنحراف عن هداه ونور رحمته الواسعة.
3 - تسخير الأرض والسّماء للإنسان:
لقد سخّر الله هذه الموجودات للإنسان وذلّلها لمصالحه.
(وقد بيّنا هذا الموضوع مفصّلا في تفسير الآية (12) إلى (14) من سورة النحل، وفي تفسير الآية الثّانية من سورة الرعد).
وجاء ذكر السفن في البحار والمحيطات بين النعم، لأنّها كانت أهمّ وسيلة للنقل والتجارة.
ولم تحلّ محلّها أيّة وسيلة أرخص منها حتّى الآن.
ولو توقّفت هذه السفن يوماً لاختلّت منافع البشر، فالطرق البريّة لا تسدّ حاجة الإنسان إلى النقل والإنتقال، خاصّةً في العصر الحاضر الزاخر بالإحتياج إلى النفط المحمول في السن التي لا تفتر عن الحركة، لتدير عجلة الصناعة في العالم.
ولقد تجلّت هذه النعمة اليوم أكثر، فما تعدل عشرات الآلاف من الصهاريج السيّارة في البرّ ناقلة نفط عملاقة، ونقل النفط بواسطة الأنابيب النفطيّة لا يستوعب إلاّ مناطق محدودة من العالم.
1- نقرأ في "الميزان" أنّ إطلاق الحقّ على الله والباطل على غيره، لأنّ الحقّ الذي لم يختلط بباطل أبداً هو الله سبحانه وتعالى، أو لكونه عزّوجلّ مستقلا في حقّانيته والآخرون تابعين له.