الآيات 55 - 59
﴿وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَة مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْم عَقِيم55 الْمُلْكُ يَوْمَئِذ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ56 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَـتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ57 وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ58 لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ59﴾
التّفسير
الرّزق الحسن:
تحدّثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهيّة، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصّبين قساة.
تقول الآية الأُولى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتّى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفّار لا الكفّار كلّهم، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصفوف المسلمين.
قصدت الآية زعماء الكفّار والمعاندين والمتعصّبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.
وتعني كلمة "مرية" الشكّ والترديد، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوماً على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم، بل كانوا في شكّ من القرآن والإسلام، إلاّ أنّ تعصّبهم كان يحول دون توصّلهم إلى الحقيقة.
أمّا "الساعة" فقد ذهب البعض إلى أنّها تعني الموت ونظيره، إلاّ أنّ الآيات اللاحقة بيّنت أنّ القصد ختام العالم وعشيّة يوم القيامة، والتي رافقت كلمة "بغتة".
ويقصد بـ(عذاب يوم عقيم) عقاب يوم القيامة، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره.
ثمّ أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة (الملك يومئذ لله) وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق، وليس ليوم القيامة فقط، بل هو على مدى الزمان، وبما أنّ في الدنيا مالكين وحكّاماً آخرين رغم محدودية ملكياتهم وسلطانهم ورغم أنّها ملكية ظاهرية وسلطان شكلي، إلاّ أنّه قد يولد تصوّراً بأنّ هناك حكّاماً ملاّكاً غير الله.
ولكنّ كلّ هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.
وبتعبير آخر: هناك نوعان من السيادة والملكية: السيادة الحقيقيّة، وهي للخالق على المخلوق، والسيادة الإعتبارية الناتجة عن اتّفاق بين الناس، ويوجد كلا هذان النوعان في الدنيا، ولكن تزول الحكومات الإعتبارية كلّها يوم القيامة، وتبقى السيادة الحقيقيّة لخالق العالم(1).
وعلى أي حال، فإنّ الله هو المالك الحقيقي، فهو إذن الحاكم الحقيقي، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد: (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنّات النعيم) الجنّات التي تتوفّر فيها جميع المواهب وكلّ الخيرات والبركات.
ويضيف القرآن الكريم (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنافاُولئك لهم عذاب مهين) ما أجمل هذا التعبير! عذابٌ يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات الله، اُولئك الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله.
وقد وصف القرآن العذاب بـ"الأليم" و "العظيم" و "المهين" في آيات مختلفة، ليلائم كلّ واحد منه الذنب الذي إقترفه المعاندون!.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن المجيد أشار في حديثه عن المؤمنين إلى أمرين "الإيمان" و "العمل الصالح"، وفي المقابل أشار في حديثه عن الكافرين إلى "الكفر" و "التكذيب بآيات الله"، وهذا يعني أنّ كلّ منهما متركّب من إعتقاد داخلي وأثر خارجي يبرز في عمل الإنسان، حيث إنّ لكلّ عمل إنساني أساساً فكرياً.
وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، لأنّهم قالوا: ربّنا الله، ودافعوا عن شريعته، فقد إعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت: (والذين هاجروا في سبيل الله ثمّ قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً وإنّ الله لهو خير الرازقين).
قال بعض المفسّرين: إنّ "الرزق الحسن" هو النعم التي تشدّ نظر الإنسان إليها عند مشاهدته لها فلا يدير طرفه عنها، وإنّ الله وحده هو القادر على أن يمنّ على الإنسان بهذا النوع من الرزق ... ذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الآية خلاصته: "لمّا مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبدالأسد، قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممّن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسويّة بينهم، وإنّ الله يرزق جميعهم رزقاً حسناً، وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل.
وقد قال بعض أهل العلم: إنّ المقتول في سبيل الله والميّت في سبيل الله شهيد"(2).
وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن (ليدخلنّهم مدخلا يرضونه) فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب، فإنّ الله يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات، وتعوّضهم - على أفضل وجه - عمّا ضحّوا به في سبيل الله.
وتنتهي هذه الآية بعبارة (وإنّ الله لعليم حليم) أجل، إنّ الله عالم بما يقوم به عباده، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الإمتحان هذه، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وازدادوا تقرّباً إلى الله.
1- تحدّثنا في هذا أيضاً في تفسير الآية (124) من سورة البقرة.
2- الميزان، المجلّد الرّابع عشر، ص433.