الآيات 46 - 48

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَـرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ46 وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ47 وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ48﴾

التّفسير

السير في الأرض والعبرة:

تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم، وأكّدت الآية الأُولى هذه القضيّة فقالت: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).

أجل، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدّمة، وعبدة الدنيا، فلكلّ واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في زواياه من ظلم وفسق وجور، ويحدّثنا عن ألف حادثة وحادثة.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه الله عليهم!

إنّ آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكّر والإتّعاظ، حيث يعوّضنا أحياناً عن مطالعة كتاب ضخم، ومع أنّ أصل التاريخ يعيد نفسه، فانّ هذه الآثار تجسّد للإنسان مستقبله أمام عينيه.

أجل، إنّ دراسة آثار القدماء تجعل آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة.

ولهذا السبب يحثّ القرآن المجيد - في كثير من آياته - المؤمنين على السياحة، سياحةً إلهيّةً أخلاقيةً فيها عبرة لأنفسنا وعظة نحصّلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة.

فمرّة نمرّ عبر دجلة إلى المدائن، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن، لنسمع نصائح جديدة من شقوق خرائب القصور التي كان عمّارُها الملوك الجبابرة، ولنأخذ منها الدروس والعبر(1).

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد: (فإنّها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور).

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين.

أمّا العمي فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبداً! لهذا يقول الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "شرّ العمى، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب"(2).

ونطالح حديثاً للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب غوالي اللآلي "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائباً عنه"(3).

وهنا يثار سؤال: كيف يقال أنّ القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق، في وقت نعلم فيه أنّ القلب مضخّة للدم ليس إلاّ؟!

وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، وخلاصته أنّ أحد معاني القلب هو العقل، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.

إضافةً إلى أنّ القلب مظهر العواطف، وكلّما تأثّرت العواطف والإدراكات الروحيّة في الإنسان، فإنّ أوّل أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه، ويمنح الجسم نشاطاً وحيوية جديدة، فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب، لأنّه أوّل من يتأثّر بها في جسم الإنسان.

(فتأمّلوا جيداً).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب (العقل) والاُذنين، إشارةً إلى أنّه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق.

فإمّا أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل إلى النتيجة المتوخّاة، وإمّا أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل الحقّ، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين(4).

وترسم الآية الثّانية - موضع البحث - صورة أُخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول: (ويستعجلونك بالعذاب) فردّ عليهم ألاّ تعجلوا (ولن يخلف الله وعده).

و "العجول" هو من يخشى فوات الفرصة من يده، وإنتهاء إمكاناتها.

أمّا الله القادر على كلّ شيء منذ الأزل، فلا حاجة له بالعجلة، فهو قادر دوماً على الوفاء بما عد، فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة: (وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون).

وسواء أكان حقّاً أم باطلا تكرارهم القول: لماذا لم ينزل الله علينا البلاء.

فليعلموا أنّ العذاب يترقّبهم وسينزل عليهم قريباً.

فإن أمهلهم الله، فإنّ ذلك ليعيدوا

النظر في أعمالهم، وسيغلق باب التوبة بعد نزول العذاب ولا سبيل للنجاة حينذاك.

وهناك تفاسير أُخرى لعبارة (وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون) غير ما ذكرنا (وهو تساوي اليوم الواحد والألف سنة بالنسبة إلى قدرته تعالى) منها: قد يلزم ألف عام لإنجازك عملا ما، والله تعالى ينجزه في يوم أو بعض يوم، لهذا فإنّ عقابه لا يحتاج إلى مقدّمات كثيرة.

وتفسير آخر يقول: إنّ يوماً من أيّام الآخرة كألف عام في الدنيا، وإنّ جزاء ربّك وعقابه يزداد بهذه النسبة، لهذا نقرأ في الحديث التالي: "إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام"(5).

وفي آخر آية نجد تأكيداً على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفّار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة أُخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية، وفجأةً نزل عليهم العذاب: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثمّ أخذتها).

إنّ اُولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكّون من تأخّر العذاب عليهم، ويسخرون من وعيد الأنبياء، ولا يرونه إلاّ باطلا، إلاّ أنّهم ابتلوا بالعذاب أخيراً ولم ينفعهم صراخهم أبداً (وإليّ المصير) أجل كلّ الاُمور تعود إلى الله، وتبقى جميع الثروات فيكون الله وارثها.


1- المصدر السابق.

2- شرحنا في تفسير الآية (137) من سورة آل عمران بإسهاب دراسة تاريخ القدماء عن طريق السياحة والسير في الأرض.

3- نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص508.

4- المصدر السابق، ص509.

5- عن تفسير الميزان، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 426.