الآيات 42 - 45

﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ42 وَقَوْمُ إِبْرَهِيمَ وَقَوْمُ لُوط43 وَأَصْحَـبُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ44 فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْر مُّعَطَّلَة وَقَصْر مَّشِيد45﴾

التّفسير

بئر معطّلة وقصر مشيد!

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا - كما ذكرت الآيات السابقة - مرارة المحنة التي فرضها عليهم أعداء الإسلام الذين آذوهم وطردوهم من منازلهم لا لذنب إرتكبوه، بل لتوحيدهم الله سبحانه وتعالى.

وقد طمأنت الآيات - موضع البحث - الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيّئة تنتظر الكفرة من جهة أُخرى، فقالت: (وإن يكذّبوك فقد كذّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود).

أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد كذّبت رسلها أيضاً، وأضافت: (وقوم إبراهيم وقوم لوط).

وكذلك كذّب أهالي مدينة "مدين" نبيّهم "شعيب"، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم "موسى" (وأصحاب مدين وكذّب موسى).

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيديّة ودعوتهم إلى الحقّ والعدل قطّ.

إلاّ أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصوّرون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية.

(فأمليت للكافرين ثمّ أخذتهم) أجل، أمهل الله الكافرين ليؤدّوا إمتحانهم وليتمّ الحجّة عليهم فأغرقهم بنعمته، ثمّ حاسبهم حساباً عسيراً.

(فكيف كان نكير)(1) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال ... سلبتهم سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

آخر الآية موضع البحث يبيّن الله تعالى كيفيّة عقاب الكفّار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة (وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء: (فهي خاوية على عروشها).

أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتّى أنّ السقوف إنهارت أوّلا ثمّ الجدران على السقوف (وبئر معطّلة) فما أكثر الآبار الرويّة بمياهها العذبة، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

(وقصر مشيد)(2) أجل ما أكثر القصور المشيدة التي إرتفعت شاهقة وزُينت، إلاّ أنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجلّلة، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا.

وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

ملاحظة

ممّا يلفت النظر التّفسير الذي ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) حيث فسّروا (وبئر معطّلة) بالعلماء الذين لا يستفيد منهم المجتمع، فبقيت علومهم معطّلة.

فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (ع) في تفسير عبارة (وبئر معطّلة وقصر مشيد) قوله: "البئر المعطّلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق" وبهذا المعنى روي أيضاً عن الإمام الصادق (ع)(3).

وهذا التّفسير نوع من التشبيه (مثلما يشبه المهدي (عج) ناشر العدل في العالم بالماء المعيّن) أي إنّ الإمام عندما يستقرّ في دست الحكم يكون كالقصر المشيد، يجلب إنتباه الداني والبعيد ويكون ملجأً للجميع.

وإذا أبعد عن الحكم وتخلّى الناس عنه، إحتلّ مكانه من لا يستحقّه فيكون عندها كبئر إمتلأت ماءً، إلاّ أنّها معطّلة لا يستفاد منها فلا تروي عطشاناً ولا تسقي زرعاً.

ما أحسن ما أنشد الشاعر العربي:

بئر معطّلة وقصر مشرف ***** مثل لآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مستطرف

فالقصر مجدهم الذي لا يُرتقى ***** والبئر علمهم الذي لا ينزف(4)


1- تفسير علي بن إبراهيم (حسبما نقله تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص506).

2- النكير تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

3- "المشيد" مشتقّة من "شيد" على وزن "عيد" ذات معنيين: أوّلهما الإرتفاع، والثّاني الجصّ، فتعني لفظة "قصر مشيد" القصر المرتفع.

والمعنى الثّاني القصر الذي بني على اُسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من اللبن، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزاً عنها.

4- تفسير البرهان، المجلّد الثّالث، صفحة - 30.