الآيات 36 - 38

﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَـهَا لَكُم مِّن شَعَـئِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَـهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ36 لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الُْمحْسِنِينَ37 إِنَّ اللهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّان كَفُور38﴾

التّفسير

لماذا الاُضحية؟

عاد الحديث عن مراسم الحجّ وشعائره الإلهيّة والاُضحية ثانية، ليقول أوّلا: (والبُدن جعلناها لكم من شعائر الله) إنّ "البُدن" وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة، ومن جهة أُخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة.

فالاُضحية في الحجّ من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من قبل.

"البدن" على وزن "القدس" جمع لـ"البُدنة" على وزن "عجلة" وهي الناقة الكبيرة والسمينة.

وقد أكّدها لأنّها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين في مراسم الاُضحية، ومن المعلوم أنّ سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في الاُضحية.

وكلّ ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفاً.

ثمّ تضيف الآية: (لكم فيها خير) فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين، ومن جهة أُخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم الله، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثمّ تبيّن الآية - بعبارة موجزة - كيفية ذبح الحيوان (فاذكروا اسم الله عليها صواف) أي اذكروا اسم اللّه حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصّة.

بل يكفي ذكر اسم من أسماء الله عليها، كما يبدو من ظاهر الآية، إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت صيغة محدّدة، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل، حيث روي عن ابن عبّاس أنّه قال: الله أكبر، لا إله إلاّ الله والله أكبر، اللهم منك ولك(1).

إلاّ أنّه ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) عبارات أكثر وضوحاً فبعد شراء الاُضحية توجّهها إلى القبلة وتقول حين الذبح: "وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك اُمرت وأنا من المسلمين، اللهمّ منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر، اللهمّ تقبّل منّي"(2).

كلمة "صوافّ" جمع "صافّة" بمعنى الحيوان الواقف في صفّ.

وكما ورد في الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معاً حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر.

وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقداراً من الدم، فتتمدّد على الأرض، ويقول القرآن المجيد هنا (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) أي عندما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة).

فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين "القانع" و "المعتر" هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يُعطى وتبدو عليه علائم الرضى والإرتياح ولا يعترض أو يغضب، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتجّ أيضاً.

كلمة "القانع" فمشتقّة من "القناعة"، و "المعترّ" مشتقّة من "عرّ" على وزن (شرّ) وهي في الأصل تعني الجرب، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد الإنسان.

ثمّ اُطلقت كلمة "المعترّ" على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان معترض.

وتقديم القانع على المعترّ إشارة إلى ضرورة الإهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزّة النفس.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ عبارة (كلوا منها) توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول: (كذلك سخّرناها لكم لعلّكم تشكرون).

وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معاً ثمّ ينحره.

(وطريقة النحر تتمّ بطعنة سكّين حادّة في لبّة الناقة، لتنزف دمها، وليلفظ هذا الحيوان أنفاسه بسرعة).

ولإيضاح أهميّة تسلّط الإنسان على الحيوان في الذبح، فإنّ الله جلّ وعلا يسلب أحياناً طاعة هذا الحيوان وإنقياده للإنسان، حيث نشاهد هياج البعير وتبدلّه إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدّة رجال أقوياء بعد ما كان مسخّر حتّى لصبي صغير!!

وهناك ثمّة أسئلة، وهي: ما هي حاجة الله تعالى للاُضحية؟

وما هي فلسفة الاُضحية؟

وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها).

إنّ الله ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي، فما هو بجسم، ولا هو بحاجة إلى شيء، وإنّما هو موجد كلّ وجود وموجود.

إنّ الغاية من الاُضحية كما تقول الآية: (ولكن يناله التقوى منكم) فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقرّبوا إلى الله.

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية، فتقديم الاُضحية - مثلا - فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والإستعداد للشهادة في سبيل الله، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين.

وعبارة (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) مع أنّ دماءها غير قابلة للإستفادة، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحياناً على الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد اتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون، حتّى نهتهم هذه الآية المباركة(3) وممّا يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض المناطق حيث يرشّون دماء الاُضحية على باب وجدران منزلهم الجديد، حتّى أنّهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضاً.

ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوّة ضدّ هذا العمل.

ثمّ تشير الآية ثانيةً إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة: (كذلك سخّرها لكم لتكبّروا الله على ما هداكم).

إنّ الهدف الأخير هو التعرّف على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي هداكم بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلّم مناسك الحجّ والتعاليم الخاصّة بطاعته والتعبّد له، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القويّة طيّعة لكم تقدّمونها أضاحي إستجابةً لله تعالى، وتعملون عملا طيّباً يُساعد المحتاجين، وتستفيدون من لحومها في تأمين حياتكم.

لهذا تقول الآية في الختام: (وبشّر المحسنين)اُولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهيّة في طاعة الله، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل الله أبداً.

وفاعلوا الخير هؤلاء لم يحسنوا للآخرين فقط، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضاً.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين، ووقوع إشتباكات محدودة أو واسعة، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره (إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا).

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا.

فالدفاع الإلهي عنّا أكيد.

ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه العبارة الصريحة (إنّ الله لا يحبّ كلّ خوّان كفور) اُولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية.

فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي، ولا يذكرون اسم الله عليها، فكيف يحبّ الله قوماً كهؤلاء الخونة الكفرة؟!


1- بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.

2- مجمع البيان في تفسير ختام الآية، وروح المعاني في تفسير هذه الآية بإختلاف يسير.

3- وسائل الشيعة، المجلّد العاشر، صفحة 138 - أبواب الذبح الباب (37).