الآيات 31 - 33

﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَان سَحِيق31 ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـئِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ32 لَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ33﴾

التّفسير

تعظيم شعائر الله دليل على تقوى القلوب:

عقّبت الآيات هنا المسألة التي أكدّها آخِر الآيات السابقة، وهي مسألة التوحيد، وإجتناب أي صنم وعبادة الأوثان.

حيث تقول (حنفاء لله غير مشركين به)(1) أي أقيموا مراسم الحجّ والتلبية في حالة تخلصون فيها النيّة لله وحده لا يخالطها أي شرك أبداً.

"حنفاء" جمع "حنيف" أي الذي إستقام وإبتعد عن الضلال والإنحراف، أو بتعبير آخر: هو الذي سار على الصراط المستقيم، لأنّ "حنف" على وزن "صدف" تعني الرغبة، ومَن رغب عن كلّ إنحراف فقد سار على الصراط المستقيم.

وعلى هذا فإنّ الآية السابقة إعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكاً أساسيّاً في الحجّ والعبادات الاُخرى، حيث ذكرت ذلك بشكل عام، فالإخلاص أصل العبادة.

والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.

جاء في حديث عن الإمام الباقر (ع) أجاب فيه مبيّناً معنى كلمة حنيف: "هي الفطرة التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، قال: فطرهم الله على المعرفة"(2).

إنّ التّفسير الذي تضمنّه هذا الحديث، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص، أي: الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدراً لقصد القربة إلى الله، وتحريكاً ذاتياً من الله.

ثمّ ترسم الآية - موضع البحث - صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم، حيث تقول: (ومن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح من مكان سحيق)(3).

"السّماء" هنا كناية عن التوحيد، و "الشرك" هو السبب في السقوط من السّماء هذه.

ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوماً زاهرة وشمساً ساطعة وقمراً منيراً فطوبى لمن يكون شمساً أو قمراً أو في الأقل نجماً متلألئاً، ولكن الإنسان عندما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين: فإمّا يصبح طعماً للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض، وبعبارة أُخرى: يبتلى بفقدانه هذا

المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة.

حيث تأكل هذه الأهواء جانباً من وجوده.

وإذا نجا بسلام منها، ابتلي بعاصفة هوجاء تدكّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته، ويتناثر بدنه قطعاً صغيرة في أنحاء المعمورة، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما.

وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أُخرى نحو العدم، ويصبح نسياً منسياً.

حقّاً أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة.

يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه.

وكلّما سار في هذا الإتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية، وفقد كلّ ما لديه.

ولا نجد تشبيهاً للشرك يُضاهي في هذا التشبيه الرائع.

كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة إنعدام الوزن في السقوط الحرّ.

ولهذا تجرى إختبارات على الفضائيين للإستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء.

لأنّ مسألة إنعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى إضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.

والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة إنعدام الوزن، ويسيطر عليه إضطراب خارق للعادة.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول (ذلك)أي إنّ الموضوع كما قلناه، وتضيف (ومن يعظّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب).

"الشعائر" جمع "شعيرة" بمعنى العلامة والدليل، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.

ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية.

خاصّة مسألة الاُضحية التي إعتبرتها الآية (36) من نفس السورة - وبصراحة - من شعائر الله، إلاّ أنّ من الواضح مع كلّ هذا إحتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية، ولا دليل على إختصاصها - فقط - بالأضاحي، أو جميع مناسك الحجّ.

خاصّةً أنّ القرآن يستعمل "من" التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ، وهذا دليل على أنّ الاُضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (158) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله (إنّ الصفا والمروة من شعائر الله).

ويمكن القول: إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة (يعظّم) ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الاُضحية وأمثالها، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم وإحترام.

كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضاً، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة، يحدث كثيراً أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله.

إلاّ أنّ ذلك لا قيمة له، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب.

إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب.

ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر إجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه، ومنه ينفذ إلى الجسد.

لهذا نقول: إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(4).

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال وهو يشير إلى صدره المبارك: "التقوى هاهنا"(5).

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الاُضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح، كما يرون عدم جواز حلبها أو الإستفادة منها بأي شكل كان، ولكن القرآن نفى هذه العقيدة الخرافية حيث قال: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى).

وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال (ع): "اركبها" فقال: يارسول الله إنّها هدي.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) "اركبها ويلك"(6).

كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيت (عليهم السلام) هذا الموضوع ومنها حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (ع) في قوله عزّوجلّ: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمّى) قال: "إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها، وإن كان لها لبن حلبها حلاباً لا ينهكها"(7).

والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.

فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبداً حيث يذبحها قبل الوصول إلى "منى" ويستفيد من لحومها.

وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة (لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد).

ومن جهة أُخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الإستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للاُضحية، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.

والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر، هو أنّ الآيات السابقة، لم تتطرّق إلى الأضاحي، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟

ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق "شعائر الله" التي اُشير إليها في الآية السابقة، وسيأتي ذكرها أيضاً بعد هذا، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الإستفسار(8).

وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الاُضحية: (ثمّ محلّها إلى البيت العتيق).

وعلى هذا يمكن الإستفادة من الانعام المخصّصة للاُضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح، وبعد الوصول يجرى ما يلزم.

وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الاُضحية تخصّ الحجّ.

أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة.

وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضاً.


1- المصدر السابق.

2- "حنفاء" و "غير مشركين"، كلاهما حال لضمير "فاجتنبوا"، و "اجتنبوا" في الآية السابقة.

3- توحيد الصدوق، حسبما نقله تفسير الصافي.

4- "تخطفه" مشتقّة من "الخطف" على وزن فعل، بمعنى الإمساك بالشيء أثناء تحرّكه بسرعة و "سحيق" تعني "البعيد" وتطلق على النخلة العالية كلمة "سحوق".

5- بما أنّ هناك إرتباطاً بين الشرط والجزاء، وكلاهما يخصّان موضوعاً واحداً، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفاً تقديره (ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفاً فتكون عبارة "فإنّها من تقوى القلوب" علّة نابت عن معلول تقديره: "ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب".

6- تفسير القرطبي، المجلّد السابع، الصفحة 448.

7- التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرين، الصفحة 33.

8- نور الثقلين، المجلّد الرّابع، الصفحة 497.