الآيتان 29 - 30

﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ29 ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الاَْنْعَـمُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَـنِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ30﴾

التّفسير

تتابع هذه الآيات البحث السابق عن مناسك الحجّ مشيرةً إلى جانب آخر من هذه المناسك، فتقول أوّلا: (ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) أي ليطّهروا أجسامهم من الأوساخ والتلوّث، ثمّ ليوفوا ما عليهم من نذور.

و (ليطّوفوا بالبيت العتيق) أي يطوفوا بذلك البيت الذي صانه الله عن المصائب والكوارث وحرّره.

وكلمة "تفث" تعني - كما قال كبار اللغويين والمفسّرين - القذارة وما يلتصق بالجسم وزوائده كالأظافر والشعر.

ويقول البعض: إنّ أصلها يعني القذارة التي تحت الأظافر وأمثالها(1).

ورغم إنكار بعض اللغويين لوجود مثل هذا الإشتقاق في اللغة العربية، إلاّ أنّ الراغب الاصفهاني نقل كلام بدويّ قاله بحقّ أحد الأشخاص القذرين: "ما أتفثك وأدرنك" دليلا على عربية هذه الكلمة ووجود إشتقاق لها في اللغة العربية.

وقد فسّرت (ليقضوا تفثهم) في الأحاديث الإسلامية بتقليم الأظافر وتطهير البدن ونزع الإحرام.

وبتعبير آخر: تشير هذه العبارة إلى برنامج "التقصير" الذي يعدّ من مناسك الحجّ.

وجاء في أحاديث إسلامية أُخرى بمعنى حلاقة الرأس التي تعتبر أحد أساليب "التقصير".

كما جاء في "كنز العرفان" حديث رواه ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: "القصد إنجاز مشاعر الحجّ كلّها"(2) إلاّ أنّه لا سند لدينا لحديث ابن عبّاس هذا.

والذي يلفت النظر في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه فسّر عبارة (ليقضوا تفثهم) بلقاء الإمام، وعندما سأله الراوي عبدالله بن سنان عن توضيح لهذه المسألة قال: "إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً"(3).

وهذا الحديث ربّما كان إشارة إلى ملاحظة تستحقّ الإهتمام.

وهي أنّ حجّاج بيت الله الحرام يتطهّرون عقب مناسك الحجّ ليزيلوا الأوساخ عن أبدانهم، فعليهم أن يطهّروا أرواحهم أيضاً بلقاء الإمام (ع)، خاصّةً وأنّ الخلفاء الجبابرة كانوا يمنعون لقاء المسلمين لإمامهم في الظروف العادية.

لهذا تكون أيّام الحجّ خير فرصة للقاء الإمام، وبهذا المعنى نقرأ حديثاً للإمام الباقر (ع) قال فيه: "تمام الحجّ لقاء الإمام"(4).

وكلاهما - في الحقيقة - تطهير، أحدهما تطهير لظاهر البدن من القذارة والأوساخ، والآخر تطهير باطني من الجهل والمفاسد الأخلاقية.

أمّا "الوفاء بالنذر" فيعني أنّ كثيراً من الناس ينذرون تقديم أضاحي إضافيّة في الحجّ، أو التصدّق بمال، أو القيام بعمل خيري في أيّام الحجّ، ولكنّهم ينسون ويغفلون عن كلّ ذلك عند وصولهم إلى مكّة، لهذا أكّد القرآن عليهم الوفاء بالنذور، وإلاّ يقصّروا في ذلك(5).

أمّا لماذا سمّيت الكعبة بالبيت العتيق؟

"العتيق" مشتقّة من "العتق" أي التحرّر من قيود العبودية، وربّما كان ذلك لأنّ الكعبة تحرّرت من قيود ملكية عباد الله، ولم يكن لها مالك إلاّ الله، كما حرّرت من قيد سيطرة الجبابرة كإبرهة.

ومن معاني "العتيق" أيضاً الشيء الكريم الثمين، وهذا المعنى يتجسّد في الكعبة بوضوح.

ومن المعاني الاُخرى للعتيق "القديم" يقول الراغب الاصفهاني: العتيق المتقدّم في الزمان أو المكان أو الرتبة.

وهذا المعنى أيضاً واضح بالنسبة للكعبة، فهي أقدم مكان يوحّد فيه الله.

وبحسب ما جاء في القرآن (إنّ أوّل بيت وضع للناس)(6)وعلى كلّ حال فلا مانع من إطلاق العتيق على بيت الله بعد ملاحظة ما تتضمنّه هذه الكلمة من معان، أشار كلّ مفسّر إلى جانب منها.

أو ذكرت الأحاديث المختلفة جوانب أُخرى من معانيها.

أمّا المراد من "الطواف" الوارد في آخر الآية المذكور أعلاه فهناك بحث بين المفسّرين (هناك طوافان - بعد مراسم عيد الأضحى في منى - على الحجّاج أن يقوموا بهما، الطواف الأوّل يدعى "طواف الزيارة"، والثّاني "طواف النساء").

يرى بعض الفقهاء والمفسّرين أنّ مفهوم الطواف عام هنا، لأنّ الآية لم تتضمّن قيوداً أو شرطاً ما، فهي تضمّ طواف الحجّ وطواف النساء، حتّى أنّها تشمل طواف العمرة أيضاً(7).

في وقت يرى مفسّرون آخرون أنّ الآية تقصد طواف الزيارة فقط، الذي يجب على الحاج بعد إحلاله من إحرام الحجّ(8).

إلاّ أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تفيد أنّ القصد هنا طواف النساء، ففي حديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسير (وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) قال: "طواف النساء"(9).

كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حديث بهذا المعنى(10).

وهذا الطواف يسمّى عند أهل السنّة طواف الوداع.

ومع ملاحظة هذه الأحاديث يبدو التّفسير الأخير هو الأقوى، خاصّةً إذا عبّر بهذا المعنى أيضاً في تفسير (ثمّ ليقضوا تفثهم).

حيث يجب إضافة إلى تطهير البدن من القذارة والشعر الزائد، إستعمال العطر أيضاً.

ومن المعلوم أنّه لا يجوز إستعمال العطور في الحجّ إلاّ بعد إتمام الطواف والسعي، أو عندما لا يكون طواف بذمّة الحاج إلاّ طواف النساء.

وأشارت الآية الأخيرة إلى خلاصة ما بحثته الآيات السالفة الذكر، حيث تبدأ بكلمة "ذلك" التي لها جملة محذوفة تقديرها "كذلك أمر الحجّ والمناسك" ثمّ تضيف تأكيداً لأهميّة الواجبات التي شرحت (ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه).

والمقصود هنا ب- "الحرمات" - طبعاً - أعمال ومناسك الحجّ، ويمكن أن يضاف إليها إحترام الكعبة خاصة والحرم المكّي عامّة.

وعلى هذا فإنّ تفسير هذه الآية بإختصاصها بالمحرّمات - أي كلّ ما نهى الله عنه - أو جميع الواجبات، مخالف لظاهر الآية.

كما يجب الإنتباه إلى أنّ "حرمات" جمع "حرمة" وهي في الأصل الشيء الذي يجب أن تحفظ حرمته، وألاّ تنتهك هذه الحرمة أبداً.

ثمّ تشير هذه الآية وتناسباً مع أحكام الإحرام إلى حلّية المواشي، حيث تقول: (واُحلّت لكم الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم).

عبارة (إلاّ ما يتلى عليكم) يمكن أن تكون إشارة إلى تحريم الصيد على المحرم الذي شرع في سورة المائدة الآية (95) حيث تقول: (ياأيّها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم).

كما قد تكون إشارة إلى عبارة جاءت في نهاية الآية - موضع البحث - تخصّ تحريم الاُضحية التي تذبح للأصنام التي كانت متداولة زمن الجاهلية.

لأنّ تذكية الحيوان يشترط فيها ذكر اسم الله عليه عند الذبح، ولا يجوز ذكر اسم الصنم أو أي اسم آخر عليه.

وفي ختام هذه الآية ورد أمران يخصّان مراسم الحجّ ومكافحة العادات الجاهلية:

الأوّل يقول: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) و "الأوثان" جمع "وثن" على وكن "كفن" وتعني الأحجار التي كانت تُعبد زمن الجاهلية، وهنا جاءت كلمة الأوثان أيضاحاً لكلمة "رجس" التي ذكرت في الآية، حيث تقول: (اجتنبوا الرجس).

ثمّ تليها عبارة (من الأوثان) أي الرجس هو ذاته الأوثان.

كما تجب ملاحظة أنّ عبدة الأوثان زمن الجاهلية كانوا يلطّخونها بدماء الأضاحي، فيحصل مشهد تقشّعر الأبدان من بشاعته، وقد يكون التعبير السابق إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

والأمر الثّاني هو (واجتنبوا قول الزور) أي الكلام الباطل الذي لا أساس له من الصحّة.

مسألة: ما معنى (قول الزور)؟

يرى بعض المفسّرين أنّه إشارة إلى كيفيّة تلبية المشركين في مراسم الحجّ في زمن الجاهلية، لأنّهم يلبّون بشكل يتضمّن الشرك بعينه، ويبعدونه من صورته التوحيديّة، فقد كانوا يردّدون: "لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك! تملكه وما ملك!".

حقّاً إنّه كلام باطل ودليل على (قول الزور) الذي يعني في الأصل: الكلام الكاذب، والباطل، والبعيد عن حدود الإعتدال.

ومع هذا فإنّ إهتمام الآية المذكورة بأعمال المشركين في مراسم الحجّ على زمن الجاهلية، لا يمنع من تعميمها على بطلان أيّة عبادة للأصنام بأيّة صورة كانت، وإجتناب أي قول باطل مهما كانت صورته.

ولهذا فسّرت بعض الأحاديث الأوثان بلعبة الشطرنج، وقول الزور بالغناء، والشهادة بالباطل.

وفي الحقيقة فإنّ ذلك بيان لبعض أفراد ذلك الكلّي، وليس القصد منه حصر معنى الآية بهذه المصاديق فقط.

وجاء في حديث للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة ألقاها على المسلمين "أيّها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثمّ قرأ (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)".

إنّ هذا الحديث أيضاً إشارة إلى سعة مفهوم هذه الآية.


1- وسائل الشيعة، المجلّد العاشر، الصفحة 150 (أبواب الذبح الباب 42 الحديث 5).

2- عن قاموس اللغة، ومفردات الراغب الاصفهاني، وكنز العرفان، وتفسير مجمع البيان، وتفاسير أُخرى.

3- كنز العرفان، المجلّد الأوّل، ص270.

4- نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 492.

5- وسائل الشيعة المجلّد، العاشر، الصفحة 255 (أبواب المزار الباب الثّاني الحديث الثّاني عشر).

6- إحتمل بعض المفسّرين القصد من النذور القيام بمشاعر الحجّ، إلاّ أنّه بمراجعة حالات إستعمال كلمة النذر في القرآن المجيد، يتّضح لنا أنّه يقصد المعنى المتداول من كلمة النذر، لهذا فإنّ إستخدامها في مناسك الحجّ دون دليل، خلافاً لمعناها الظاهر.

7- آل عمران، 96.

8- كنز العرفان، المجلّد الأوّل، الصفحة 271.

9- مجمع البيان نقلها في تفسير الآية - موضع البحث - عن بعض المفسّرين لم يذكر أسماءهم.

10- وسائل الشيعة المجلّد التاسع الصفحة 390 أبواب الطواف الباب الثّاني.