الآيات 15 - 17

﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَب إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كِيْدُهُ مَا يَغِيظُ15 وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَـهُ ءَايَـت بَيِّنَـت وَأَنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ16 إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـبِئِينَ وَالنَّصَـرَى وَالْـمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ17﴾

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأُولى من هذه الآيات، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أنّ الله لا ينصر محمّداً، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا.

فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون: إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات:

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أُخرى عن هؤلاء فتقول: (من كان يظنّ أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السّماء ثمّ ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ).

أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة، وهو غارق في غضبه، فليعمل ما يشاء، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد إختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين، أو ذكروه كإحتمال يستحقّ الإهتمام به(2).

الضمير في قوله سبحانه: (لن ينصره الله) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و "السّماء" تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء).

أمّا عبارة "ليقطع" فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الإهتمام، وهما:

1 - إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة، وبناءً على هذا الرأي: فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفاسهم.

(أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل إنتهى غضبهم؟!

2 - إنّ عود الضمير المذكور إلى هؤلاء الأشخاص (ليس إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) أي أنّ الذين يظنّون عدم نصر الله لهم، وأنّه يقطع رزقهم، عليهم أن يعملوا ما شاءوا، وليذهبوا إلى السّماء ويعلّقوا أنفسهم بحبل، ثمّ ليقطعوا هذا الحبل حتّى يقعوا على الأرض، فهل ينهي غضبهم؟

وجميع هذه التفاسير تركّز على ملاحظة نفسيّة تخصّ الأشخاص الحادّي المزاج.

والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالا جنونية كلّما بلغت اُمورهم طريقاً مسدوداً في الظاهر، فيضربون الأبواب والحيطان تارةً، وأُخرى يودّون أن تبتلعهم الأرض.

وقد يصمّمون على الإنتحار لإخماد نيران غضبهم.

في وقت لا تحلّ فيه هذه الأعمال الجنونية مشاكلهم، ولو تريّثوا قليلا، والتزموا بالصبر وسعة الصدر، ونهضوا بعد التوكّل على الله والإعتماد على النفس في مواجهة مشاكلهم، لأصبح حلّها مؤكّداً.

وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة، فقالت: (وكذلك أنزلناه آيات بيّنات).

لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، وأدلّة أُخرى على عدم نفع الأصنام وضرّها، وعرضت أعمال الذين يجعلون الدين وسيلة لبلوغ المنافع التافهة.

ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبّل الحقّ، بل لابدّ من إستعداد ذاتي لذلك.

ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (وأنّ الله يهدي من يريد).

وقد قلنا مراراً: إنّ إرادة الله ليست بلا حساب، فهو المدبّر الحكيم يهدي من يشاء بآياته البيّنات، خاصّةً اُولئك المجاهدين في سبيله، وهم يرجون هدايته بكلّ مشاعرهم(3).

وأشارت آخر الآية هنا إلى ستّ فئات، إحداها مسلمة مؤمنة، وخمس منها غير مسلمة (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة).

أليس يوم الفصل من أسماء يوم القيامة! حيث يفصل الله سبحانه وتعالى، فيه بين الحقّ والباطل، يوم تبلى فيه السرائر، وتنتهي فيه الخلافات.

(إنّ الله على كلّ شيء شهيد).

بحوث

1 - إرتباط الآيات

ترتبط هذه الآية بالآيات التي سبقتها، حيث تناولت الآية التي قبلها الهداية الربّانية لمن كان قابلا للهداية، ولكن بما أنّ قلوب الناس ليست على نمط واحد، بسبب وجود التعقّب والعناد والتقليد الأعمى لا يسمح للقلوب بالإهتداء، لذا يبقى التحزّب والخلاف إلى يوم القيامة الذي يكشف فيه عن الأسرار ويتجلّى الحقّ للجميع.

مضافاً إلى أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن ثلاث فئات: اُولاهما تجادل في الله وفي يوم البعث بغير دليل، وثانيها تضلّل الناس، وثالثها ضعاف الإيمان الذين يميلون كلّ مرّة إلى جهة.

لذا فقد أشارت هذه الآية إلى نماذج من هذه الفئات التي تجابه المؤمنين.

ثمّ أنّ الآيات السابقة تضمنّت سؤالا هو: ما الهدف من المعاد؟ وقد بيّنت الآية - موضع البحث - أحد أهداف المعاد، وهو إنهاء الخلافات والعودة إلى الوحدة.

2 - من هم المجوس؟

جاءت كلمة "المجوس" مرّة واحدة في هذه الآيات بجانب الأديان السماوية الاُخرى وفي مقابل المشركين، وهذا دليل على أنّ لهم ديناً ونبيّاً وكتاباً.

وتطلق كلمة "المجوس" اليوم على أتباع "زرادشت" أو أنّ أتباع زرادشت يشكّلون جزءاً مهمّاً منهم، وحياة "زرادشت" ليست واضحة تماماً، فقد قيل: إنّه ظهر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وقيل: في القرن السادس أو السابع(4).

وهذا الإختلاف بخمسة قرون أمر عجيب! يدلّ على الغموض الذي يحيط بتاريخ زرادشت.

والمعروف أنّ له كتاباً اسمه "أفستا" تلف إبّان حملة الإسكندر المقدوني على بلاد فارس.

ثمّ اُعيدت كتابته على عهد أحد ملوك الساسانيين(5).

وليس لدينا معلومات كافية عن عقيدة زرادشت، إلاّ ما اشتهر من إعتقاده بمبدأ الخير والشرّ والنور والظلام، فإله الخير والنور عنده "أهورا مزدا" وإله الشرّ والظلام "أهريمن" ويحترم فكرة العناصر الأربعة وخاصّة "النّار" حتّى اُعتبر أتباعه عبدة للنار.

وأينما كانوا وجد معهم معبد للنار صغير أو كبير.

ويرى البعض أنّ كلمة "مجوس" مشتقّة من "مغ" التي كانت تطلق على قادة وروحانيي هذا الدين.

كما أنّ كلمة "مؤبّد" التي تطلق حالياً على روحانيي هذا الدين، مشتقّة في الأصل من "مغود".

وروي أنّهم من أتباع أحد أنبياء الحقّ (إلاّ أنّهم إنحرفوا بعد توحيدهم الله، فأصبحوا على عقيدة يخالطها الشرك).

وجاء في رواية أنّ مشركي مكّة طالبوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الجزية من أتباع زرادشت مقابل السماح لهم بإلتزام ما يعتقدون به، فبيّن لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لا يأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، فقالوا: كيف هذا وقد أخذت الجزية من مجوس منطقة "هجر"؟! أجاب (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه"(6).

وجاء في حديث آخر عن "الأصبغ" بن نباتة" أنّ علياً قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث "المنافق المعروف)، فقال: يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبيّ؟ فقال(ع): "بلى يا أشعث قد أنزل اللّه عليهم كتاباً وبعث إليهم نبيّاً". الحديث(7).

وفي حديث عن الإمام علي بن الحسين (ع) قال: "إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب يعني المجوس"(8).

و "المجوس" جمع مفرده "مجوسي".

3 - من هم الصابئة؟

يستفاد من الآية السابقة، ولا سيّما من ذكر الصابئة بين اليهود والنصارى، أنّ الصابئة أصحاب دين سماوي.

وقيل: إنّهم أتباع يحيى بن زكريا (ع) الذي يسمّيه المسيحيون "يحيى المعمدان" وقيل: إنّ الصابئة مزجوا بين العقيدتين اليهودية والنصرانية، فعقيدتهم وسط بين اُولئك وهؤلاء.

يهتمّ الصابئة بالماء كثيراً، ولهذا ترى معظمهم يعيشون على ضفاف الأنهر الكبيرة، وذكر أنّهم يقدّسون بعض النجوم، ولهذا اتّهموا بعبادة النجوم.

رغم أنّ الآية السابقة لم تضعهم في صفّ المشركين (إيضاحاً لذلك يراجع التّفسير الأمثل في تفسير الآية 62 من سورة البقرة).

3 - مجموعة المنحرفين عن التوحيد

أشارت الآيات السابقة إلى خمس فئات منحرفة، يحتمل أن يكون ترتيبها هنا بحسب درجة إنحرافها عن أصل التوحيد، فاليهود أقل إنحرافاً من الآخرين بشأن التوحيد، والصابئة وسط بين اليهود والنصارى، ويليهم النصارى لقولهم بالتثليث أي تأليههم عيسى واُمّه مريم(عليهما السلام) أيضاً، وبذلك إزداد إنحرافهم.

أمّا المجوس فهم في مرحلة رابعة لتقسيمهم العالم قسمين: الخير والشرّ، وقولهم بوجود مبدأين منذ الخليقة.

أمّا المشركون وعبدة الأصنام فهم في آخر مرحلة، لإنحرافهم عن التوحيد أكثر من الآخرين.


1- بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة "يدعو" بمعنى "يقول" إلاّ أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

2- أبو الفتوح الرازي، وكذلك الفخر الرازي في تفسيرهما الآيات موضع البحث.

3- تراجع تفاسير "مجمع البيان" و "التبيان" و "الميزان" و "الفخر الرازي" و "أبو الفتوح الرازي" و "تفسير الصافي" و "القرطبي" في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

4- المبتدأ محذوف في قوله تعالى: (إنّ الله يهدي من يريد) وتقديره "الأمر أنّ الله يهدي من يريد"، ويحتمل أيضاً أنّ حرف (أن) بالفتح بمعنى (إن) بالكسر فلا محذوف في البين حينئذ.

5- أعلام القرآن ص55.

6- تفسير الميزان المجلّد الرّابع عشر صفحة 392.

7- وسائل الشيعة المجلّد الحادي عشر - أبواب جهاد العدو - الباب49 صفحة96.

8- وسائل الشّيعة، المجلد الحادي عشر، ص 98، أبواب جهاد العدو الباب 49، الحديث 7.