الآيات 11 - 14
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ11 يَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَـلُ الْبَعِيدُ12 يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ13 إنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ14﴾
التّفسير
الواقف على حافّة وادي الكفر
تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالّين، والقادة المضلّين.
أمّا هذه الآيات، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان.
قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) أي إن بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً.
ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.
وعبارة "على حرف" ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصاً من نوره إلاّ قليلا، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني "الحرف" هو حافّة الجبل والأشياء الاُخرى.
والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ.
فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.
ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص (فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة إنقلب على وجهه)(1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام.
إلاّ أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلاّ فلا.
وذكر "ابن عبّاس" ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية: "أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً.
وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته، رضي به واطمأنّ إليه، وإن أصابه وجع وولدت امرأته اُنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلاّ بسبب هذا الدين.
فينقلب عن دينه"(2).
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير.
وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الإمتحان) ولم يطلق عليها كلمة الشرّ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّاً ولا سوءاً وإنّما هي وسيلة للإمتحان.
ويضيف القرآن المجيد في الختام - (خسر الدنيا والآخرة) و (ذلك هو الخسران المبين) مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه.
وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلاّ أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!
وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين، لكن إذا إعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّةً من الإيمان، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية، فعبارة "يعبد الله" و "اطمأنّ به" و "انقلب على وجهه" تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.
أمّا إذا قُصِد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان، فلا يعارض ما قلناه، ويمكن قبوله.
وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد الإنحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله، فتقول: (يدعوا من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والإبتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه.
فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر.
فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل (ذلك هو الضلال البعيد).
إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بُعداً حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلاّ رجاءً ضعيفاً جدّاً.
ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: (يدعوا لمن ضرّه أقرب من نفعه)لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا، ويدفعهم نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم).
وتضيف الآية في الختام (لبئس المولى ولبئس العشير) فما أسوأه ناصراً ومعيناً، وما أسوأه مؤنساً ومعاشراً.
وهنا يثار سؤال، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟
في الجواب عن ذلك نقول: إنّ ذلك أمرٌ إعتيادي في المخاطبة، ففي مرحلة لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أُخرى فيعدّونه مصدر الضرر.
كأن نقول: لا تصادق فلاناً، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك.
وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو: (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وإفتضاحك.
وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها، ولكنّها تتضمّن ضرراً حتميّاً لأتباعها.
كما أنّ صيغة "أفعل التفضيل" في كلمة "أقرب" كما قلنا سابقاً: تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معيّنة.
وقد يكون الطرف الأضعف فاقداً لأيّة صفة، كأن نقول: ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير، إلاّ أنّ الصبر أفضل منها،).
وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في "التبيان" والطبرسي في "مجمع البيان".
وإحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام، فالآية الأُولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام.
فالمجموعة الأُولى لا تضرّ ولا تنفع، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة.
أمّا المجموعة الثّانية "أئمّة الضلال" فإنّهم يضرّون ولا ينفعون.
وإذا كان فيهم خير قليل فضرّهم كبير جدّاً، وعبارة (لبئس المولى ولبئس العشير) تؤكّد ذلك، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(3).
وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار).
فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة، وأنّ الله سبحانه يُثيب المؤمنين العاملين للصالحات، جنّات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء إستقامتهم على الحقّ وإستجابتهم له في الحياة الدنيا (إنّ الله يفعل ما يريد).
وثوابهم يسير عليه - جلّ وعلا - يُسْرَ عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.
وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلاّ بلسانهم، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة، وليس لهم عمل صالح، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة .. ومن جهة أُخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير.
ولئن خسر الظالمون كلّ شيء، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.
1- "ظلاّم" صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبداً لا كثيراً ولا قليلا، ويمكن أن يكون إستخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى - جلّ عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً - مصداق ظلم كبير.
2- كلمة "انقلب" في جملة "انقلب على وجهه" تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماماً، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوماً.
3- تفسير الفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرون، ص13، وتفسير القرطبي، المجلّد السادس، ص4409.