الآيات 8 - 10
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَـب مُّنِير8 ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنَذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ9 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ10﴾
التّفسير
الجدال بالباطل مرّة أُخرى:
تتحدّث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاوياً لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير).
وعبارة (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى مجموعة من الناس، والثّانية إلى مجموعة أُخرى.
وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين، في وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1).
وعبارة (ليضلّ عن سبيله) تبيّن هدف هذه المجموعة، ألا وهو تضليل الآخرين، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة (يتّبع كلّ شيطان مريد) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.
ولكن ما الفرق بين "العلم" و "الهدى" و "الكتاب المنير"؟
للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ "العلم" إشارة إلى الإستدلال العقلي.
و "الهدى" إشارة إلى إرشاد القادة الربّانيين.
و "الكتاب المنير" إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة "الكتاب" و "السنّة" و "الدليل العقلي".
وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقاً لدراسات العلماء، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضاً.
ويحتمل بعض المفسّرين أنّ "الهدى" إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه.
"وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفاً".
ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمراً إذا استند إلى أحد الأدلّة: العقل، أو الكتاب، أو السنّة.
ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: (ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.
"ثاني" مشتقّة من "ثني" بمعنى التواء و "عطف" تعني "جانب" فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشيء وعدم الإهتمام به.
ويمكن أن تكون عبارة "ليضلّ" هدف هذا الإعراض، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس.
ويمكن أن تكون نتيجة لذلك.
أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الإهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ.
ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: (له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق).
ونقول له: (ذلك بما قدّمت يداك) و (إنّ الله ليس بظلاّم للعبيد) لا يعاقب الله أحداً بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه(2).
وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى.
(للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).
1- تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، الصفحة 472.
2- تفسير الميزان، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.