الآيات 98 - 103

﴿إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَرِدُونَ98 لَوْ كَانَ هَـؤُلاَءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَـلِدُونَ99 لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ100 إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ101 لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـلِدُونَ 102 لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاَْكْبَرُ وَتَتَلَقَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ103﴾

التّفسير

حصب جهنّم!

متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم)!

"الحصب" في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب في التنور.

وقال بعضهم: إنّ للحطب - على وزن سبب - في لغات العرب ألفاظاً مختلفة، فبعض القبائل يسمّيه حصباً، والبعض الآخر خضباً، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحياناً، ومن جملة ذلك كلمة "حصب" هذه، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين: إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم، وستُلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها، ثمّ تضيف (أنتم لها واردون).

وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيداً لهذا المطلب، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا، ثمّ تردون عليها، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(2).

فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟

يقال في الجواب: إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم.

إضافةً إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.

طبعاً، هذا في حالة كون (ما يعبدون) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالباً لغير العاقل.

أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماماً، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.

ثمّ تقول كإستخلاص للنتيجة: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب، بل (وكلّ فيها خالدون).

وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائماً، وكانوا يعدّونها درعاً واقياً عن البلاء، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء "العابدين الضالّين" المؤلمة المخزية قبال "آلهتهم الحقيرة"، تقول الآية محلّ البحث: (لهم فيها زفير وشهيق).

"الزفير" في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس.

وقال بعضهم: إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيراً، وفي آخره شهيقاً.

وعلى كلّ حال فإنّه استُعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(3).

كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصراً على العباد فحسب، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضاً يصطرخون معهم.

ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاُخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي (وهم فيها لا يسمعون).

وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث لا يسمعون صوت أي أحد أبداً، فكأنّهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة، و "البليّة إذا عمّت طابت"، كما في المثل.

ثمّ تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما، فتقول أوّلا: (إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى اُولئك عنها مبعدون) وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكلّ الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا، وأحدها إبعادهم عن نار جهنّم.

وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون إشارة إلى من عُبد من دون الله كالمسيح ومريم(عليهما السلام)، الذين عبدوا دون إرادتهم، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول: ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيح (ع)، فإنّ القرآن يبيّن هذه الجملة كإستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبداً.

وذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الآية، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نفس هذا السؤال، فنزلت الآية تجيبهم.

ولكن مع ذلك فلا مانع من أن تكون الآية جواباً لهذا السؤال، وأن تكون حكماً عامّاً لكلّ المؤمنين الواقعيين.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهيّة كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالأُولى: إنّهم (لا يسمعون حسيسها) و "الحسيس" - كما قال أرباب اللغة - الصوت المحسوس، وجاءت أيضاً بمعنى الحركة، أو الصوت الناشىء من الحركة، ونار الجحيم المشتعلة دائماً لها صوت خاصّ، وهذا الصوت مرعب من جهتين: من جهة أنّه صوت النّار، ومن جهة أنّه صوت حركة النّار والتهامها.

ولمّا كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنّم، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت المرعب مطلقاً.

والثّانية: إنّهم (وهم فيما إشتهت أنفسهم خالدون) فليس حالهم كما في هذه الدنيا المحدودة، حيث أنّ الإنسان يأمل كثيراً من النعم دون أن ينالها، فإنّهم ينالون كلّ نعمة يريدونها، مادية كانت أو معنوية، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين، بل على إمتداد الخلود.

والثّالثة: إنّهم (لا يحزنهم الفزع الأكبر).

وقد إعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كلّ هول وفزع، وعدّه بعضهم إشارة إلى نفخة الصور وإختلافات الأحوال وتبدّلها عند إنتهاء هذه الدنيا، والزلزال العجيب الذي سيدكّ أركان هذا العالم كما جاء في الآية (87) من سورة النحل.

ولكن لمّا كان هول يوم القيامة وفزعها أهمّ وأكبر من جميع تلك الاُمور، فإنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأصحّ.

والرّابعة: من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث: (وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون).

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علياً (ع) قال: "فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره، رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس جهنّم أبداً"(4).


1- اعتبر البعض "الحرام" هنا بمعنى الواجب، وقالوا: إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحياناً بهذا المعنى، فتكون (لا) زائدة، ويصبح معنى الآية: إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب.

وقال البعض الآخر: إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه، إلاّ أنّ (لا) زائدة، فيكون المعنى: إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام.

وإعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان، والفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث).

وقال بعض آخر: إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي، فتقول: إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين، ذيل الآية مورد البحث) إلاّ أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.

2- تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.

3- ينبغي الإلتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى "إلى"، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأُولى، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني "إلى"، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.

4- لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.