الآيات 92 - 94
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ92 وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَجِعُونَ93 فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَـتِبُونَ94﴾
التّفسير
اُمّة واحدة:
لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله، وكذلك مريم، تلك المرأة التي كانت مثلا أسمى، وجانب من قصصهم، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة ممّا مرّ، فتقول: (إنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة) فقد كان منهجهم واحداً، وهدفهم واحداً بالرغم من إختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعاً في طريق التوحيد ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحقّ والعدالة.
إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعاً تصدر عن مصدر واحد، عن إرادة الله الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرةً: (وأنا ربّكم فاعبدون).
إنّ توحيد الأنبياء الإعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام علي (ع) في وصيته لولده الإمام المجتبى (ع) حيث يقول: "واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولعرفت أفعاله وصفاته"(1).
"الاُمّة" - كما يقول الراغب في مفرداته - تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة، الإشتراك في الدين، أو الزمن والعصر الواحد، أو المكان المعيّن، سواء كانت هذه الوحدة إختيارية أو بدون إختيار.
وإعتبر بعض المفسّرين الاُمّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للاُمّة.
وقال البعض الآخر: إنّ المراد من الاُمّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار، أي إنّكم أيّها البشر اُمّة واحدة، ربّكم واحد، وهدفكم الأخير واحد.
إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر إنسجاماً من التّفسير السابق، ولكنّه لا يبدو مناسباً بملاحظة إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة، بل الأنسب منها جميعاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.
وأشارت الآية التالية إلى إنحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد، فقالت: (وتقطّعوا أمرهم بينهم) فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرّأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الإنحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.
جملة "تقطّعوا" - من مادّة قطع - بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد، وإذا لاحظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول، فإنّ معنى الجملة هو: إنّ اُولئك قد إستسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر، وأنهوا إتّحادهم الفطري والتوحيدي، فمَنُوا - نتيجة ذلك - بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!
وتضيف في النهاية: (كلّ إلينا راجعون) فإنّ هذا الإختلاف عرضي يمكن إقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعاً في يوم القيامة، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الإختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة، فنقرأ في الآية 48/سورة المائدة: (إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).
ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(2)، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة، ويرجع إلى الوحدة.
وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الإنسجام مع الاُمّة الواحدة في طريق عبادة الله، أو الإنحراف عنها وإتّخاذ طريق التفرقة، فتقول: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) ومن أجل زيادة التأكيد قالت: (وإنّا له لكاتبون).
وممّا يستحقّ الإنتباه، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية - ككثير من آيات القرآن الاُخرى - كركنين أساسيّين لنجاة البشر، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطاً، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.
وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاُخرى قد عدّت الإيمان شرطاً لقبول الأعمال الصالحة.
ذكر جملة (فلا كفران لسعيه) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد، هو تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده، ويشكر لهؤلاء سعيهم.
وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19/سورة الإسراء: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً).
1- التّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير في ظلال القرآن، ذيل الآية محل البحث.
2- نهج البلاغة. الرسالة 31.