الآيات 59 - 67
﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّـلِمِينَ59 قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَهِيمُ60 قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ61 قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَابِآلِهَتِنَا يَـإِبْرَهِيمُ62 قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ63 فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظّلِمُونَ64 ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلاَءِ يَنطِقُونَ65 قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ66 أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ67﴾
التّفسير
إبراهيم وبرهانه المبين:
وأخيراً إنتهى يوم العيد، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة، فأتوا إلى المعبد مباشرةً، حتّى يظهروا ولاءهم للأصنام، وليأكلوا من الأطعمة التي تبرّكت - بزعمهم - بمجاورة الأصنام.
فما أن دخلوا المعبد حتّى واجهوا منظراً أطار عقولهم من رؤوسهم، فقد وجدوا تلاًّ من الأيادي والأرجل المكّسرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور، فصاحوا و (قالوا من فعل هذا بآلهتنا)(1)؟! ولا ريب أنّ من فعل ذلك فـ(إنّه لمن الظالمين) فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنّه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.
إلاّ أنّ جماعة منهم تذكّروا ما سمعوه من إبراهيم (ع) وإزدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة! (قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال لهم إبراهيم)(2).
صحيح أنّ إبراهيم - طبقاً لبعض الرّوايات - كان شاباً، وربّما لم يكن سنّه يتجاوز (16) عاماً، وصحيح أنّ كلّ خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ مراد عبّاد الأصنام لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: إنّ إبراهيم قد فعل هذا الفعل، قالوا: إنّ فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا ... أي إنّه فرد مجهول تماماً، ولا شخصيّة له في نظرهم.
إنّ المألوف - عادةً - عندما تقع جريمة في مكان ما، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل، تبحث علاقات الخصومة والعداء، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع، و (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون)عليه بالجريمة.
وإحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد مشاهدة منظر عقاب إبراهيم، لا الشهادة على كونه مجرماً.
غير أنّ الآيات المقبلة التي لها صبغة التحقيق والإستجواب تنفي هذا الإحتمال، إضافةً إلى أنّ التعبير بـ"لعلّ" لا يناسب المعنى الثّاني، لأنّ الناس إذا حضروا ساحة العقاب فسيشاهدون ذلك المنظر حتماً، فلا معنى لـ"لعلّ".
فنادى المنادون في نواحي المدينة: "ليحضر كلّ من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام"، فإجتمع كلّ الذين كانوا يعلمون بالموضوع، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتّهم؟
لقد حدثت ضجّة وهمهمة عجيبة بين الناس، لأنّ هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شابّ مثير للفتن والمتاعب، وكانت قد هزّت البناء الديني للناس.
وأخيراً تشكّلت المحكمة، وكان زعماء القوم قد إجتمعوا هناك، ويقول بعض المفسّرين: أنّ نمرود نفسه كان مشرفاً على هذه المحاكمة، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيم (ع) هو أن: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم)؟
هؤلاء لم يكونوا مستعدّين حتّى للقول: أأنت حطّمت آلهتنا وجعلتها قطعاً متناثرة؟ بل قالوا فقط: أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟
فأجابهم إبراهيم جواباً أفحمهم، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون).
إنّ من اُسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت باديةً على يد الصنم الكبير، وفقاً للرواية المعروفة: إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير.
لماذا تأتون إليّ؟ ولماذا لا تتّهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنّه غضب على الآلهة الصغيرة، أو إنّه إعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟
ولمّا كان ظاهر هذا التعبير لا يطابق الواقع في نظر المفسّرين، ولمّا كان إبراهيم نبيّاً معصوماً ولا يكذب أبداً، فقد ذكروا تفاسير مختلفة، وأفضلها كما يبدو هو:
إنّ إبراهيم (ع) قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعاً، إلاّ أنّ كلّ القرائن تشهد أنّه لم يكن جادّاً في قصده، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنيين الخرافية الواهية، ويفنّدها أمامهم، ويُفهم هؤلاء أنّ هذه الأحجار والأخشاب التي لا حياة فيها ذليلة وعاجزة إلى الحدّ الذي لا تستطيع أن تتكلّم بجملة واحدة تستنجد بعبّادها، فكيف يريدون منها أن تحلّ معضلاتهم؟!
ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليوميّة، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضعِ أمامه مسلّماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الإستفهام، وهذا ليس كذباً أبداً، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.
وفي رواية عن الإمام الصادق (ع) في كتاب الكافي: "إنّما قال: بل فعله كبيرهم، إرادة الإصلاح، ودلالة على أنّهم لا يفعلون" ثمّ قال: "والله ما فعلوه وما كذّب".
وإحتمل جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم قد أدّى هذا المطلب بشكل جملة شرطيّة وقال: إنّ الأصنام إذا كانت تتكلّم فإنّها قد فعلت هذا الفعل، ومن المسلّم أنّ هذا التعبير لم يكن خلاف الواقع، لأنّ الأصنام لم تكن تتكلّم، ولم تكن قد أقدمت على مثل هذا العمل، ولم يصدر منها، ووردت رواية في مضمون هذا التّفسير أيضاً.
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب، لأنّ الجملة الشرطيّة "إن كانوا ينطقون" جواب الطلب في "فاسألوهم"، وليست شرطاً لجملة "بل فعله كبيرهم".
(فلاحظوا بدقّة).
واللطيفة الاُخرى التي ينبغي الإلتفات إليها هي: إنّ العبارة هي أنّه يجب أن يسأل من الأصنام المحطّمة الأيدي والأرجل عمّن فعل بها ذلك، لا من الصنم الكبير، لأنّ ضمير (هم)، وكذلك ضمائر "إن كانوا ينطقون" كلّها بصيغة الجمع، وهذا أنسب مع التّفسير الأوّل(3).
لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة، وأزاح الرماد عن شعلة النّار فأضاءها، وأنار فطرتهم التوحيديّة من خلف حجب التعصّب والجهل.
في لحظة سريعة إستيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم، كما يقول القرآن: (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون)(4) فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدّسة.
والطريف في الأمر أنّنا قرأنا في الآيات السابقة أنّهم اتّهموا إبراهيم بكونه ظالماً، وهنا قبلوا وإعترفوا في أنفسهم بأنّ الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم.
وفي الواقع فإنّ كلّ مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيّون العنودون أصناماً أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المسألة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصّبين.
إلى الآن إستطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حسّاسة جداً من طريق تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسيّة هائجة.
ولكن للأسف، فإنّ صدأ الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يُصقل ويُمحى تماماً بنداء بطل التوحيد.
وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدّسة، وثارت في ضمائرهم الملوّثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضدّ نور التوحيد هذا، ورجع كلّ شيء إلى حالته الأُولى، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول: (ثمّ نكسوا على رؤوسهم)ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البُكْم قالوا: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فإنّهم دائماً صامتون، ولا يحطّمون حاجز الصمت.
وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلّة الأصنام.
وهنا فُتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للإستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي: (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم)؟ فماذا تنفع هذه الآلهة المزعومة الخياليّة التي لا قدرة لها على الكلام، وليس لها شعور وإدراك، ولا تقدر أن تدافع عن نفسها، ولا تستطيع أن تحمي عبّادها، ولا يصدر عنها أي عمل؟
إنّ عبادة معبود ما إنّما يكون لأهليّته للعبادة، ومثل هذا الأمر لا معنى له في شأن الأصنام الميتة، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله، أو الخوف من خسارتهم، إلاّ أنّ إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح أنّها لا تملك أدنى حركة، ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقاً وجهالة؟!
ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام، وإنهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس، فقال: (أُف(5) لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون)؟ إلاّ أنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلاّ يلجّوا في عنادهم.
في الحقيقة، كان إبراهيم يتابع خطّته بدقّة متناهية، فأوّل شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا: ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي لا تحسّ ولا تتكلّم وإذا كنتم تقولون: إنّها سنّة آبائكم، فقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.
وفي المرحلة الثّانية أقدم على خطّة عملية ليبيّن أنّ هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كلّ من ينظر إليها نظرة إحتقار، خاصة وأنّه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطّمها تماماً، وليوضّح أنّ تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.
وفي المرحلة الثّالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخيّة إلى طريق مسدود، فمرّة دخل إليهم عن طريق فطرتهم، وتارةً خاطب عقولهم، وأُخرى وعظّهم، وأحياناً وبّخهم ولامهم.
والخلاصة، فإنّ هذا المعلّم الكبير قد دخل من كلّ الأبواب، وإستخدم كلّ طاقته، إلاّ أنّ من المسلّم أنّ القابلية شرط في التأثير، وكان هذا قليل الوجود بين اُولئك القوم للأسف.
ولكن لا شكّ أنّ كلمات إبراهيم(ع) وأفعالهِ بقيت كأرضيّة للتوحيد، أو على الأقل بقيت كعلامات إستفهام في أذهان اُولئك، وأصبحت مقدّمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل.
ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به، وهم وإن قلّوا عدداً، إلاّ أنّهم كانوا من الأهميّة بمكان، إذ هيّأوا الإستعداد النسبي لفئة أُخرى.
1- مجمع البيان، ذيل الآية مورد البحث.
2- إعتبر بعض المفسّرين (من) هنا موصولة، إلاّ أنّ ملاحظة الآية التالية التي هي في حكم الجواب، فسيظهر أنّ (من) هنا إستفهامية.
3- كما أشرنا سابقاً: إنّ الوثنيين لم يكونوا مستعدّين للقول: إنّ هذا الفتى كان يعيب الآلهة، بل قالوا فقط: إنّه كان يتحدّث عن الأصنام.
4- إضافة إلى أنّ ضمير كبيرهم مع البقيّة متشابه.
5- إحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من (فرجعوا إلى أنفسهم) أنّهم تحدّثوا بينهم عن ذلك الكلام، ولام بعضهم بعضاً. إلاّ أنّ ماقلناه يبدو هو الأصحّ.